الخطاب الذي ألقاه السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي الكوبي ورئيس مجلسي الدولة والوزراء، القائد العام فيدل كاسترو روز، في الاحتفال بمناسبة الذكرى الستين لالتحاقه بالجامعة، والذي أقيم في قاعة الشرف في جامعة هافانا، في السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2005، "عام الخيار البوليفاري الخاص بالأمريكتين".
Fecha:
(بعد مراجعته ووضع اللمسات الأخيرة عليه من قبل صاحبه، مع احترامه الكامل لسلامة الأفكار التي عبّر عنها في خطابه)
يا طلاب وأساتذة جامعات كوبا كلها الأعزاء؛
أيها الرفاق القادة وباقي المدعوين الذين رافقتمونا في طريق النضال على مدى سنوات طوال:
الآن حلّت اللحظة الأصعب، وهي لحظة إلقاء بضع كلمات في قاعة الشرف هذه، التي أُلقي فيها كل ما ألقي من كلمات. عالم من الأفكار يخطر على بال المرء، وهذا أمر منطقي لأنه قد مر بعض الوقت.
لقد كنتم لطيفين جداً في تذكر يوم خاص جداً هذا اليوم: الذكرى الستون لالتحاقي الخجول بهذه الجامعة.
لقد شاهدت صورة هنا، وأمعنت النظر فيها: سترة رسمية؛ والوجه هكذا، لا أدى إن كان وجه غاضب، أو وجه رجل شرير، أو وجه رجل طيب، أو شخص مستاء، لأن هذه الصورة لم يتم التقاطها في اليوم الأول من دخولي إلى الجامعة؛ أعتقد أنه كان قد مر على التحاقي بها بضعة أشهر، وكانت قد بدأت تظهر عندي ردود الفعل ضد أمور كثيرة كالتي كنا نشاهدها هنا. لم يكن فكراً مبلوراًَ ولا شيء من هذا القبيل؛ إنما كان فكراً تواقاً للأفكار، وكذلك أيضاً للرغبة بالمعرفة؛ وروحاً ربما كانت متمردة، مليئة بالأحلام، بأحلامٍ لا أستطيع أن أقول بأنها ثورية، وإنما ينبغي القول أنها مليئة بالأفكار وبالطاقة، وربما كذلك بالتطلع للنضال.
حسناً، كنت أنا قبلها رياضياً، كنت أهوى تسلّق الجبال. حتى أنهم كانوا قد حوّلوني أولاً إلى ما يشبه نقيب الكشافة –ولا أعرف تماماً لماذا-، وبعدها، في وقت لاحق، حوّلوني إلى جنرال كشافة. وهكذا فإنني حين كنت طالباً في الثانوية كانوا قد منحوني رتباً أعلى من الرتب التي أحملها اليوم (ضحك)، لأنني أصبحت بعدها كومندان، ولكن ليس أكثر من كومندان، أما قائد عام فلم تكن تعني أكثر من كوني قائداً عاماً لتلك الفرقة الصغيرة المكوّنة من حوالي 82 رجلاً، الذين أنزلنا بهم من على متن يخت "غرانما".
هذا اللقب نشأ بعد الإنزال البحري، في الثاني من كانون الأول/ديسمبر 1956. من بين الاثنين وثمانين رجلاً كان لا بد من وجود قائد، ثم وضعوا له فيما بعد "عاماً". وهكذا، انتقلت شيئاً فشيئاً من قائد إلى قائد عام حين أصبح هناك الكثير من القادة، لأنها كانت الرتبة الأعلى خلال مدة طويلة من الزمن. أذكر هذه الأمور. على المرء أن يفكّر بما كان عليه وما كان يفكّر به، وما كان يكنّ من أحاسيس.
ربما أن هناك ظروف خاصة في حياتي ولّدت عندي ردود فعل. واجهت شيئاً من المشقّة منذ مرحلة مبكّرة جداً، ولعل هذا ما جعل ميلي للتمرد يأخذ بالتطور.
يجري الحديث هنا وهناك عن متمردين بلا قضية؛ ولكن، حين أعود بالذكريات، يبدو لي أنني كنت متمرداً صاحب قضايا كثيرة، وأشكر الحياة على بقائي متمرداً طوال عمري، وحتى يومنا هذا، وربما يحضرني سبب أكبر لذلك، لأن لدي مزيداً من الأفكار، لدي مزيداً من الخبرة، ولأنني تعلّمت الكثير من كفاحي بحد ذاته، لأنني أفهم على نحو أكبر بكثير هذه الأرض التي ولدنا فيها وهذا العالم الذي نعيش فيه، والمعولم اليوم، في دقائق حاسمة من مصيره. لن أتجرأ على القول دقائق حاسمة من تاريخه، لأن تاريخه هو أقصر بكثير، إنه لا شيء تقريباً بالمقارنة مع حياة جنس بدأ في سنوات حديثة العهد، ربما قبل ثلاثة أو أربعة أو خمسة آلاف سنة، القيام بخطواته الأولى بعد تطوره الطويل والوجيز؛ وأقول الطويل والوجيز لأنه تطور حتى تحوّل إلى كائن مفكّر خلال فترة ربما دامت بضع مئات من السنين، وفي نهاية وجود الحياة على هذا الكوكب، الذي يقول العارفون بأنه نشأ، حسبما أذكر وإذا لم أكن مخطئاً، قبل 1000 أو 1500 مليون سنة. أولاً نشأت الحياة ثم نشأت بعدها ملايين الأجناس، ونحن لسنا أكثر من ذلك، أحد ملايين الأجناس التي نشأت على هذا الكوكب، ولهذا أقول أنه بعد حياة قصيرة، وهي في ذات الوقت طويلة، وصلنا إلى هذه اللحظة، في هذه الألفية، التي يقال بأنها الألفية الثالثة منذ بداية العهد المسيحي.
ولمَ كل هذا اللف والدوران حول هذه الفكرة؟ لأنني أتجرأ على التأكيد بأن هذا الجنس هو اليوم موضع خطر حقيقي وفعلي بالانقراض، وليس بوسع أحد أن يؤكد، واسمعوا جيداً، ليس بوسع أحد أن يؤكد أنه سينجو من هذا الخطر.
حسناً، عدم نجاة الجنس البشري هو أمر جرى الحديث عنه قبل ألفي سنة، لأنني أذكر أنه حين كنت طالباً كان يُحكى عن سفر الرؤيا، الذي يتنبّأ به الإنجيل، إنه أشبه ما يكون بأن بعضهم قد تنبّه قبل ألفي سنة بأن هذا الجنس الضعيف يمكنه أن يندثر يوماً.
طبعاً، الماركسيّون أيضاً. أذكر تماماً كتاباً لإنجلز، "الديالكتيكية"، يحكي فيه أن الشمس ستنطفئ يوماً ما، وأن المحروقات التي تغذي لهب هذا النجم الذي ينيرنا سينفد ويختفي نور الشمس من الوجود. حينها يبقى عندي سؤال، ربما وجهتموه إلى أنفسكم يوماً ما أنتم أو أساتذتكم، أو الآلاف أو مئات الآلاف منكم، وهو السؤال عمّا إذا كانت توجد إمكانية أم لا لهجرة هذا الجنس إلى نظام شمسي آخر.
ألم تطرحوا هذا السؤال على أنفسكم أبداً؟ ولكنكم ستطرحونه في لحظة ما، لأن المرء يطرح على نفسه أشياء كثيرة على مدى الحياة، ولكنه يطرحها على نفسه بوجه خاص حين يكون هناك دافع لفعل ذلك. وأنا أظن أنه لم يحضر الإنسان أبداً دافعاً أكبر من الذي يحضره اليوم لطرح هذا السؤال، لأنه ما دام ذلك الرجل الذي كان ماركسياً قد طرح مشكلة اندثار الحرارة ونور الشمس، وطرح كعالِم بأن النظام الشمسي سيختفي من الوجود يوماً ما، نحن أيضاً، كثوريين، وانطلاقاً من خيال واسع، من واجبنا أن نتساءل عمّا سيحدث وإذا كان هناك من أمل ما بأن ينجُو هذا الجنس ويرحل إلى نظام شمسي آخر توجد فيه حياة أو يمكن وجودها فيه. الشيء الوحيد الذي نعرفه حتى الآن هو أنه توجد شمس على مسافة أربعة سنوات ضوء بين مئات الآلاف من ملايين الشموس الموجودة في هذا الفضاء الهائل، الذي لا نعرف بعد إن كانت له نهاية أم لا.
من القليل الذي نعرفه بالفيزياء، بالرياضيات، وعن الضوء وسرعة الضوء، والذين يسافرون إلى أقرب الكواكب، حيث لا يجدون شيئاً، والذين يسافرون إلى الزهرة، أصحاب الامتياز بالوصول إلى هناك، سوف يجدون أعاصير أسوأ من أعاصير "كاترينا" أو "ريتا" أو "ميشيل" أو "ميتش" لا أعرف بكم من مرّة، وأسوأ من باقي الأعاصير التي تضربنا بقوة أكبر في كل مرة، لأنه يتم التأكيد بأن درجة الحرارة في الزهراء تبلغ 400 درجة، وهي كتل من الهواء أو من الغلاف الجوي الثقيل تهب بشكل متواصل.
أولئك الذين وصلوا إلى المرّيخ، والذين قالوا بأنه مكان ربما سبق وأن وُجدت فيه حياة –يقول شافيز بأنه ربما وُجدت فيه حياة، يمازح في ذلك-، وانتهت، اضمحلّ كل شيء، إنهم يبحثون الآن عمّا إذا كان يوجد هناك جزيئية من الأوكسجين أو أي أثر للحياة. حسناً، يمكن أن يكون قد حدث أي شيء، ولكن الاحتمال الأكبر هو أنه لم يسبق أن وُجدت حياة متطوّرة على وجه أي من هذه الكواكب. مجموعة العوامل التي مكّنت من وجود الحياة توفّرت بعد مضي آلاف الملايين من السنين في كوكب الأرض، وهي حياة واهية يمكنها أن تقوم بين درجات محدودة من الحرارة، بين بضع درجات دون الصفر وبضع درجات أخرى فوق الصفر، فأحد لا يستطيع البقاء في درجة حرارة للمياه تبلغ ستين درجة؛ عشرون ثانية في المياه بحرارة تبلغ 60 درجة بدون أي حماية هي كافية لمنع أي إنسان من الحياة، تكفي عدة عشرات من الدرجات تحت الصفر، بدون تكييف اصطناعي، ولا يمكن للإنسان أن يعيش. في هذا الهامش الضيّق من الحرارة نشأت الحياة.
إننا نتكلّم عن الحياة، لأننا حين نتكلّم عن الجامعات إنما نتكلّم عن الحياة.
ما الذي أنتم عليه؟ لو وجهتم إلي هذا السؤال الآن، لأجبت بأنكم أنتم حياة، أنكم رمز للحياة.
لقد تكلّمنا هنا عن أحداث من حياتنا، عن جامعتنا، عن الذين وصلنا إلى هنا قبل بضع عشرات من السنين وعن الموجودين اليوم هنا، ممن التحقوا بالسنة الأولى أو الذين هم على وشك التخرج، أو بعضهم تخرّج وأصبح يقوم بوظائف ليس بوسع آخرين، أصحاب خبرة أدنى، القيام بها.
حاولت أن أتذكّر كيف كانت عليه تلك الجامعات، وكيف كنّا نقضي وقتنا وما هي الأمور التي كانت تهمّنا. كنّا مهتمين بهذه الجزيرة، هذه الجزيرة الصغيرة. لم يكن الحديث يجري بعد عن عولمة، لم يكن التلفزيون موجوداً، ولا كذلك الإنترنيت، ولم تكن موجودة الاتصالية الفورية بين نقطة وأخرى من نقاط كوكبنا، وبالكاد كان الهاتف موجوداً، وفي أحسن الحالات بعض الطائرات المروحيّة. على الأقل في زمني أنا، في 1945، بالكاد كانت طائراتنا التجارية تصل إلى ميامي، وذلك بكثير من المشقّة، مع أنه حين كنت في المرحلة الابتدائية كنت أسمع حكايات عن رحلة كل من باربيران وكوجار، فقد كان يقال في بيران: "من هنا مرّ باربيران وكوجار"، وهما طيّارين إسبانيين اجتازا المحيط الأطلسي وتابعا طريقهما إلى المكسيك؛ ولكن لم تأتِ أخبار جديدة بعدها عن باربيران وكوجار، وما زال الجدل جارياً حول المكان الذي سقطا فيه، إن كان في البحر بين بينار ديل ريّو والمكسيك، أو في يوكاتان أو في أي مكان آخر. ولكن لم يُعرَف أبداً شيء بعد ذلك عن باربيران وكوجار، اللذين كانا قد تجرّآ على اجتياز الأطلسي في طائرة مروحية صغيرة كان قد تم اختراعها في موعد حديث العهد. فقد كان في بدايات القرن الذي انتهى للتو أن بدأ الطيران.
نعم، كانت قد انتهت للتو حرب مريعة، كلفت أرواح حوالي 50 مليون شخص، وأنا أتكلم الآن عن تلك اللحظة، من عام 1945، حين التحقت أنا بالجامعة، في الرابع من أيلول/سبتمبر؛ التحقت بها في تلك الفترة، وأنتم سمحتم لأنفسكم بالاحتفال بهذه الذكرى في أي يوم كان، ربما كان يوم الرابع، أو كان يوم السابع عشر، وربما كان في تشرين الثاني/نوفمبر، ربما كان اليوم، الذي اخترتموه أنتم موعداً، فكثرة المناسبات تبلغ مبلغاً أنه لا يمكنكم أنتم إقامة كل ذلك القدر من الاحتفالات ولا أنا حضورها كلّها، وأكبر ألم كان يمكنني أن أشعر به في حياتي هو ألا أحضر حفلاً في قاعة الشرف بدعوة منكم، خصوصاً في هذه اللحظة.
لديّ في كل يوم الكثير من الاحتفالات، ففي كل يوم أتحدث ساعات وساعات مع الجماهير، وخاصة من الشبان، جماهير من الطلاب ومع فرق طبية تذهب لتنفيذ مهمّات مجيدة لا يستطيع أحد غيرهم تقريباً القيام بها في هذا العالم الذي أتكلّم عنه الآن، لأن أي بلد آخر لا يستطيع أن يرسل لمساعدة شعب شقيق من أمريكا الوسطى ألف طبيب، كالذين يواجهون في هذه اللحظة الألم والموت هناك، في وجه أكبر فاجعة طبيعية تحدث في ذلك البلد تحفظها الذاكرة.
فرقة فرقة، تكلمت مع كل واحدة من هذه الفرق وودّعتها؛ أو مع الذين يذهبون إلى الجهة الأخرى من الأرض، على مسافة 18 ساعة من الطيران، حيث وقعت، بشكل متزامن تقريباً، واحدة من أكبر الفواجع البشرية التي عرفها عالمنا منذ زمن طويل، فأنا لا أذكر فاجعة أخرى مماثلة، من حيث المكان الذي وقعت فيه، ومن حيث الشعب الفقير الذي ألمّت به، شعب رعاة يعيشون في جبال شاهقة وعشية حلول فصل الشتاء، وذلك هناك، حيث البرد شديد جداً، وحيث الفقر كبير وحيث العالم الفاقد للإحساس والذي يبذِّر بليون دولار سنوياً على الدعاية التجارية من أجل خداع الأغلبية الساحقة من أبناء البشرية –والذين يدفعون فوق ذلك ثمن الأكاذيب التي تقال- في ما يحوّل الكائن البشري إلى شخص يبدو وكأنه عاجز عن التفكير، لأنهم يجعلونهم يستهلكون صابوناً هو ذات الصابون بأسماء عشر ماركات مختلفة، وعليهم أن يخدعونهم، لأنهم هم الذين يدفعون هذا البليون من الدولارات، لا تدفعه الشركات، وإنما أولئك الذين يشترون المنتجات بفضل الدعاية؛ هذا العالم الفاقد للحسّ الذي ينفق بليون دولار سنوياً على غايات ذات طابع عسكري –لقد أصبحوا بليونين من الدولارات-؛ هذا العالم الفاقد للحسّ الذي يجرد الجماهير الفقيرة، وهم الأغلبية الساحقة من سكان كوكبنا، بلايين الدولارات سنوياً، ويبدو غير آبه حين يقال له بأنه قد مات هناك نحو 100 ألف شخص، ربما كان بينهم 25 ألفاً أو 30 ألف طفل، وحيث يوجد أكثر من 100 ألف جريح، والأغلبية يعانون كسوراً في عظام الأطراف العليا أو الدنيا من الجسم، والذين أجريت عمليات لنسبة بالكاد تصل إلى 10%، حيث يوجد أطفال، شبان، رجال، نساء، شيوخ، ذوي أعضاء معوّقة.
هذا هو العالم الذي نعيش فيه اليوم، ليس هو بعالم مليء بالخير، إنه عالم مليء بالأنانية؛ ليس بعالم يطفح بالعدل؛ إنه عالم يطفح بالاستغلال، بالظلم، بالنهب، حيث يموت عدد من ملايين الأطفال سنوياً –ممن يمكن إنقاذهم-، وذلك بكل بساطة لأنهم بحاجة لسنتات معدودة ثمناً لدواء، لقليل من الفيتامينات والأملاح المعدنية وبضعة دولارات للغذاء، كافية من أجل تمكنهم من البقاء. يموت في كل سنة بسبب الظلم عدد من الأشخاص يبلغ من الحجم ما يبلغه تقريباً حجم ما خلّفته تلك الحرب الهائلة التي ذكرتها قبل دقائق معدودة.
أي عالم هو هذا؟ أي عالم هو هذا الذي تعلن فيه إمبراطورية همجية حقها بمهاجمة سبعين بلد أو أكثر على نحو مفاجئ ووقائي، مستخدمة أحدث أنواع الأسلحة وتقنيات القتل؟عالم تسود فيه إمبراطورية الهمجية والقوة، بمئات القواعد العسكرية في كافة أرجاء المعمورة، ومن بينها واحدة في أراضينا نحن، والتي تدخّلت فيها بشكل تعسفي حين لم تعد السلطة الاستعمارية الإسبانية قادرة على البقاء، وحين كان مئات الآلاف من خيرة أبناء هذا الشعب، الذي كان عدده بالكاد يصل إلى المليون، قد قضوا في حرب طويلة استمرت نحو ثلاثين سنة؛ "إصلاح بلات" مثير للاشمئزاز بموجب قرار يبعث ذات القدر من الاشمئزاز منحها على نحو غادر الحق بالتدخل في أرضنا عندما ترى هي بأنه لا يوجد ما يكفي من النظام.
لقد مرّ أكثر من قرن من الزمن وما تزال تحتل بالقوة قطعة الأرض هذه، التي تحولت اليوم إلى هول ووصمة عار على جبين العالم، حين يُنشر بأنها قد تحولت إلى جحر تعذيب، حيث يتواجد مئات الأشخاص ممن تم جمعهم من أي مكان من العالم، ولا تأخذهم إلى أراضيها لأنه يمكن أن توجد فيها بعض القوانين التي تخلق عراقيل أمام خطفها لأولئك الرجال بالقوة ولعدة سنوات بعيداً عن أي مسعى أو أي قانون أو أي إجراء، وبالإضافة لذلك، وفيما يبعث الدهشة في كل أصقاع الأرض، تم إخضاعهم لتعذيب ساديّ وهمجي. وقد عرف العالم بهذا الأمر حين أخذوا بممارسة التعذيب في سجن عراقي بحق مئات الأسرى من البلد الذي تم احتلاله باستخدام كل جبروت تلك الإمبراطورية العاتية، وحيث فقد مئات الآلاف من الأشخاص أرواحهم.
يتم في كل يوم اكتشاف أمور جديدة. قبل فترة وجيزة تم نشر الأنباء التي أفادت بأن لدى حكومة ذلك البلد سجوناً سرية في البلدان العميلة في أوروبا الشرقية، وهي تلك البلدان التي تصوت في جنيف ضد كوبا وتتهمها بانتهاك حقوق الإنسان؛ هذا البلد الذي لم يعرف مركز تعذيب واحد على مدار 46 سنة من الثورة؛ لأنه لم يتم في بلدنا أبداً انتهاك ذلك التقليد الذي لا سابقة له في التاريخ، والمتمثل في أن رجلاً واحداً لم يتعرض للتعذيب، أو لم تُعرَف حالة تعذيب واحدة تعرض لها رجل؛ وليس من شأننا أن نكون الوحيدين الذين نمنعه، إنما هو شعبنا الذي أصبح يتمتع بمفهوم رفيع جداً عن كرامة الإنسان.
مَن منّا، مَن منكم، مَن مِن أبناء وطننا من شأنه أن يسمح بنفس مطمئنة بقصة رجل يتعرض للتعذيب، بالرغم من آلاف الأعمال الوحشية والإرهابية المرتكبة بحق شعبنا، وبالرغم من آلاف الضحايا الذين أنزلهم عدوان هذه الإمبراطورية التي تحاصرنا منذ أكثر من 46 سنة وحاولت وتحاول خنقنا بكل السبل؟ والآن يقول شديدو الوقاحة –كما قال أحدهم مؤخراً حيال التصويت الساحق بأغلبية 182 من أعضاء الأمم المتحدة، بتحفظ واحد-، وهو متواطئ كبير مع قاطع الطرق هذا، دولة إسرائيل الموالية للنازية، التي تدعم الحصار، بأن الصعوبات التي نعانيها هي محصّلة فشلنا. لا بد من قول ذلك بهذه الكلمات، لأن أولئك الذين يرتكبون تلك الجرائم باسم شعب عانى الملاحقة والتشرد في العالم على مدى أكثر من 1500 سنة وذهب ضحية أكثر الجرائم وحشية خلال الحرب العالمية الثانية، شعب إسرائيل، الذي لا يتحمّل أي ذنب في أعمال الإبادة الوحشية خدمةً للإمبراطورية، والتي تؤدي إلى هولوكوست شعب آخر، وهو الشعب الفلسطيني، يدعون أيضاً إلى الحق الذي يبعث الاشمئزاز بمهاجمة بلدان أخرى بشكل مفاجئ ووقائي.
في هذه اللحظة ذاتها تهدد الإمبراطورية بمهاجمة إيران إذا ما أنتجت محروقات نووية. المحروقات النووية ليست سلاحاً نووياً، ليست قنابل نووية؛ ومنع بلد من إنتاج محروقات المستقبل هو أشبه ما يكون بمنع أحد من التنقيب عن النفط، وهو محروقات الحاضر والذي ينتظره مصير الاندثار خلال مدة قصيرة من الزمن. أي بلد في العالم يتم منعه من التنقيب عن المحروقات، الفحم، الغاز، النفط؟
إننا نعرف ذلك البلد جيداً، إنه بلد يبلغ عدد سكانه 70 مليون نسمة، يضع نصب عينيه تحقيق التطوّر الصناعي ويفكّر، ويحضره كل الحق في ذلك، بأنها جريمة كبرى وضع احتياطه من الغاز والنفط في خدمة تغذية القدرة الكامنة البالغة آلاف الملايين من الكيلو/واط التي يحتاجها بشكل عاجل التطور الصناعي لهذا البلد من بلدان العالم الثالث. وها هي الإمبراطورية تسعى لمنعه وتهدده بالقصف. واليوم يجري التداول على الساحة الدولية حول اليوم والساعة التي سيحدث فيها ذلك، وما إذا كانت الإمبراطورية ستقوم بالقصف الوقائي والمفاجئ لمراكز البحث التي تسعى للحصول على تكنولوجيات إنتاج محروقات نووية أم أنها ستستخدم عميلتها إسرائيل لذلك.
ثمانون بالمائة من النفط يتواجد اليوم بيد بلدان من العالم الثالث، إذ أن البلدان الأخرى قد استنفدت ما لديها، ومن بينها الولايات المتحدة، التي كانت تتمتع باحتياط هائل من النفط والغاز لم يعود يكفيها إلا لبضع سنوات، ولهذا تحاول ضمان السيطرة على النفط في أي مكان كان من العالم وبأي طريقة كانت؛ غير أن هذا المصدر من مصادر الطاقة ينفد، وبعد 25 أو 30 سنة لن يبقى ألا مصدراً أساسياً للإنتاج الواسع للطاقة الكهربائية، بالإضافة للمصدر الشمسي ودواليب الهواء، إلى آخره، وهو الطاقة النووية.
إنه بعيد اليوم الذي بوسع الهيدروجين أن يتحول فيه، عبر عمليات تكنولوجية ما تزال في المهد، إلى مصدر أنسب للمحروقات لا تستطيع البشرية أن تعيش بدونه، وهي البشرية التي اكتسبت مستوى معين من التطور التقني. إنها مشكلة الحاضر.
وزير علاقاتنا الخارجية لبّى للتو دعوة لزيارة إيران، فكوبا ستكون مقراً للاجتماع المقبل لبلدان عدم الانحياز، بعد سنة، وذلك البلد يطالب بحقّه بإنتاج محروقات نووية كأي واحد من البلدان الصناعية، وبألا تكون مرغماً على تدمير الاحتياط من مادة أولية أخرى لا تنفع فقط كمصدر للطاقة، وإنما كمصدر للعديد من المنتجات، كمصدر للأسمدة، للنسيج، لعدد لا يحصى من المنتجات التي يجري استخدامها عالمياً اليوم.
هذا ما تجري عليه أمور العالم. وسنرى ما يمكنه أن يحدث إن خطر على بالهم أن يقصفوا إيران من أجل تدمير أي منشأة تسمح لها بإنتاج محروقات نووية.
لقد وقّعت إيران معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، كما وقعتها كوبا. نحن لم نطرح أبداً مسألة إنتاج أسلحة نووية، لأننا لا نحتاجها، وإذا ما كنّا بحاجة إليها، كم يكلِّف إنتاجها وماذا نفعل عبر إنتاج سلاح نووي في وجه عدوّ يملك آلاف الأسلحة النووية؟ إنما من شأن ذلك أن يعني الدخول في لعبة المواجهات النووية.
نحن نملك نوعاً آخر من الأسلحة النووية، إنها أفكارنا؛ نحن نملك أسلحة نووية، إنه حجم العدالة الذي نكافح من أجله؛ نحن نملك أسلحة نووية بفضل القوة التي لا تُقهر للأسلحة الأخلاقية. ولهذا لم يخطر على بالنا أبداً إنتاجها من نوع آخر، ولا خطر على بالنا السعي للحصول على أسلحة بيولوجية، من أجل ماذا؟ أسلحة لمحاربة الموت، لمحاربة الآيدز، لمحاربة الأمراض، لمحاربة السرطان، هذا ما نخصص له مواردنا، رغم أن قاطع الطرق –لم أعد أذكر ما اسم هذا المرء الذي عينوه، لا أعرف إن كان بولتون، بوردون، ما أدراني- ما لا يقل عن ممثل للولايات المتحدة في الأمم المتحدة، كذّاب كبير، وقح، من اخترع بأن كوبا تقوم بأبحاث في مركز الهندسة التناسلية والبيوتكنولوجية لإنتاج أسلحة بيولوجية.
كما اتهمونا بأننا نتعاون مع إيران، عبر تحويل تكنولوجيا لتحقيق تلك الغاية، وما نقوم بفعله في الواقع، إيران وكوبا، هو بناء معمل للمنتجات المضادة للسرطان، هذا هو ما نعكف على فعله. ويريدون أيضاً منعه. اذهبوا إلى الجحيم، أو إلى أي مكان تريدون الذهاب إليه، أيها الأغبياء، فأنتم لن تبعثوا الخوف في قلب أحد هنا! (تصفيق).
كذّابون، وقحون! كل العالم يعرف بأن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) نفسها قد اكتشفت بأنه كاذب ما قاله الممثل الحالي لحكومة الولايات المتحدة لدى منظمة الأمم المتحدة، وأنهم قد أرغموا رجلاً على الاستقالة لأنه قال بأن هذا كاذب، وتنبّه آخرون أيضاً في وزارة الخارجية الأمريكية بأنه كذب، فغضب الرجل وصوّب مدافعه على كل أولئك الذين قالوا الحقيقة. هذا هو ممثل "الصغير بوش" أمام أسرة الأمم المتحدة، حيث صوت 182 بلد للتو ضد حصارهم المشين. هذا هو العالم الذي يسعون للتبختر فيه بالقوة والتبختر بفضل الأكاذيب وبفضل الاحتكار شبه الكامل لوسائل الإعلام. لاحظوا ما هي عليه من معركة يتم خوضها في هذه اللحظة. وقد عينوا هذا الشخص رغماً عن إرادة الكونغرس، وفي لحظة يعرف فيها العالم أجمع بأنه شخص حقير وكذّاب مثير للاشمئزاز.
في كل يوم يكتشفون للسيد الذي يحكم الولايات المتحدة خدعة جديدة، جناية جديدة، دناءة جديدة يرتكبها أعضاء حكومته، وها هم يأخذون بالسقوط، يأخذون بالسقوط بقليل من الضجة. لن يبقى شيء في الأنحاء يستر على عيوبهم، ولكنهم يواصلون ارتكاب الفواحش.
ذكرت لكم السجون في عدة بلدان، إنها سجون سرّية يرسلون إليها مخطوفين بحجة مكافحة الإرهاب، ولم يعد الأمر يتعلق فقط بأبو غريب، ولا يتعلق فقط بغوانتانامو، ففي أي بقعة من العالم أصبح يوجد سجن سري حيث يقوم المدافعون عن حقوق الإنسان بممارسة أعمال التعذيب؛ إنهم أنفسهم الذين يقومون في جنيف، كالماعز، بالتصويت أحدهم بعد الآخر ضد كوبا، البلد الذي لا يعرف التعذيب، ما يبعث الشرف والمجد لهذا الجيل، ما يبعث الشرف والمجد لهذه الثورة، ما يبعث الشرف والمجد لكفاح من أجل الاستقلال، من أجل العدالة، من أجل كرامة الإنسان التي يجب أن تظل طهارتها وكرامتها بعيدة عن أي شائبة! (تصفيق)
ولكن الأمر لا ينتهي هنا، هذا الصباح وردت أنباء تتحدث عن استخدام الفوسفور الحي في الفلوجة، هناك حيث اكتشفت الإمبراطورية أن شعباً، أعزل من السلاح عملياً، لا يمكن قهره ووجد الغزاة أنفسهم في وضع لا يسمح لهم بالرحيل ولا بالبقاء: فإذا ما رحلوا يعود المقاتلون؛ وإذا ما بقوا، يحتاجون لهذه القوات في أماكن أخرى. لقد قتل حتى الآن أكثر من ألفي جندي شاب أمريكي، ويتساءل البعض، إلى متى سيواصلون الموت في حرب ظالمة، تم تبريرها بأكاذيب فظة؟
ولكن، لا تظنّن أنهم يتمتعون باحتياط وافر من الجنود الأمريكيين، فيوماً بعد يوم يقل عدد الأمريكيين الذين ينضوون، وقد حوّلوا الانضواء في صفوف الجيش إلى مصدر لفرص العمل، فهم يتعاقدون مع عاطلين عن العمل، وقد حاولوا في كثير من الأحيان التعاقد مع عدد أكبر من الزنوج الأمريكيين لحروبهم الظالمة، وتصل أنباء مفادها أنه يقل يوماً بعد يوم عدد الزنوج الأمريكيين المستعدين للانضواء في صفوف الجيش، بالرغم من البطالة والتهميش اللذين يخضعون لهما، لأنهم يدركون بأنه يتم استخدامهم كوقود للمدافع. في تجمعات الغيتو في لويسيانا، حين قالت الحكومة أنقذ نفسك بنفسك، تخلت عن آلاف المواطنين الذين قضوا اختناقاً أو ماتوا في مآويٍ العجزة أو في المستشفيات أو طبَِّق الأطباء على بعضهم الموت الرحيم خوفاً من أن يروهم يموتون اختناقاً. إنها قصص واقعية معروفة ويجب التمعّن فيها.
إنهم يجلبون لاتينيين، مهاجرين من الذين اجتازوا الحدود هرباً من الجوع، وهي الحدود التي يموت عليها أكثر من 500 مهاجر سنوياً؛ يموت خلال 12 شهراً عدد أكبر بكثير من عدد الذين ماتوا خلال السنوات الثماني وعشرين التي دامها قيام جدار برلين.
عن جدار برلين كان الإمبراطورية تتكلم في كل يوم؛ بينما لا تقول كلمة واحدة عن الجدار القائم في المكسيك والولايات المتحدة، حيث أصبح يموت سنوياً أكثر من 500 شخص، ممن يفكرون بالهرب من الفقر والتخلّف فيحاولون الهجرة. هذا هو العالم الذي نعيش فيه.
فوسفور حي في الفلوجة! هذا يعني الإمبراطورية، وعلى نحو سرّي. حين تم الكشف عن هذا الأمر قالت حكومة الولايات المتحدة بأن الفوسفور الحي هو سلاح عادي. ما دام عادياً، لماذا لم يعلنوا عنه؟ لماذا لم يكن يعرف أحد بأنهم استخدموا ذلك السلاح الذي تمنعه المعاهدات الدولية؟ إذا ما كان النابالم محظوراً، فإن الفوسفور الحي هو على درجة أشد من الحظر.
تصل في كل يوم أنباء من هذا النوع، وكل هذه الأمور لها علاقة بالحياة، كل هذه الأمور لها علاقة بهذا العالم. لاحِظوا كم هو كبير الفارق بين ذلك الزمن الذي وصلنا فيه نحن إلى الجامعة مليئين جميعاً بأفكار، مليئين بأحلام، مليئين بإرادة حسنة ولو أنه لم تكن تغذيها خبرة الأيديولوجية العميقة والأفكار التي تم الأخذ باكتسابها على مدار السنين. هكذا كان يدخل الشبان إلى هذه الجامعة التي، وبالمناسبة، كانت جامعة الكادحين؛ كانت جامعة الشرائح المتوسطة من المواطنين، كانت جامعة أغنياء البلاد، مع أن الفتية الشباب كانوا عادة فوق أفكار طبقتهم، وكان كثيرون منهم مستعدين للنضال، وهكذا ناضلوا على مدى تاريخ كوبا.
ثمانية طلاب تم إعدامهم عام 1871 وشكلوا بذوراً لأسمى وأنبل المشاعر وللروح الثائرة عند شعبنا، الذي شعر ببالغ الاستياء من ذلك الظلم الهائل؛ على غرار الطلاب التسعة، الذين تحل اليوم ذكرى قتلهم على يد النازيين في براغ في السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1939، عشية الحرب العالمية الثانية.
لقد كان طلاب الطب أولئك حاضرين دائماً في تاريخ شبيبتنا، فقد كافح طلاب الطب هؤلاء ضد الحكومات. كان ميجا أحدهم، والمنحدر أيضاً من شريحة متوسطة؛ لأن أبناء أفقر الشرائح، أبناء الفلاحين، لم يكونوا يعرفوا القراءة والكتابة، فكيف سيكون بإمكانهم الالتحاق بجامعة، كيف سيكون بإمكانهم الالتحاق بمدرسة ثانوية.
أنا، ولأنني كنت ابن ملاك كبير للأراضي، تمكنت من إنجاز الصف السادس ومن ثم التوجه لاحقاً إلى معهد ثانوي وأنا في الصف السابع.
من كان عاجزاً عن دراسة المرحلة الثانوية هل كان بإمكانه أن يذهب إلى الجامعة؟ من كان ابن فلاح، ابن عامل، يعيش في مصنع للسكر أو في أي من البلديات الكثيرة التي لم تكن كبلدية سنتياغو دي كوبا أو بلدية أولغين، أو ربما بلدية منسانيجو وغيرها اثنتين أو ثلاث، لم يكن بوسعه دراسة المرحلة الثانوية، ولا حتى المرحلة الثانوية! وأقل من ذلك شأناً التخرج من الجامعة، لأنه بعدما يتخرج من الثانوية كان عليه أن يأتي إلى هافانا.
تمكّنت أنا من المجيء إلى هافانا لأن والدي كان ملاّكاً كبيراً للأراضي، وهكذا درست الثانوية، وهكذا جاء بي القدر إلى جامعة. هل أنا يا ترى أفضل من أي من أولئك المئات من الصبية، الذين لم يصل أحد منهم تقريباً إلى الصف السادس ولم يصل أي منهم إلى المرحلة الثانوية، ولم يلتحق أي منهم بجامعة؟
حالتي أنا بحد ذاتها، كما هي حالات كثيرة، وقد ذكرت ميجا، ويمكنني أن أذكر غيتيراس، ويمكنني أن أذكر تريخو، الذي قضى في واحدة من تلك المظاهرات يوم ثلاثينٍ من أيلول/سبتمبر، في الكفاح ضد ماتشادو؛ ويمكنني أن أذكر أسماء كالأسماء التي ذكرتموها أنتم هنا عند بداية الاحتفال.
قبل انتصار الثورة، كان هناك دائماً الكثير من الشبان النبلاء يشاركون في الصراع ضد نظام الاستبداد الباتستي، مستعدون للتضحية، ومستعدون لوهب حياتهم. وهكذا، حين عاد نظام باتيستا المستبد بكل صرامة، كافح كثيرون من الطلاب ومات منهم كثيرون، وذلك الشاب ابن كارديناس، مانزانيتا، كما كانوا يلقّبونه، الباسم دائماً، المرح دائماً، واللطيف دائماً مع باقي الآخرين، كان آخذاً بالبروز ببسالته وصموده، حين كان ينزل من على مدرج الجامعة، وحين كان يواجه سيارات رجال الإطفاء، وحين كان يواجه الشرطة. هكذا أخذ كل أولئك بالبروز.
بل وإذا ما ذهبتَ إلى المنزل الذي كان يعيش فيه إيتشيفيرّيا –خوسيه أنتونيو، ولنسمّه هكذا-، إنه منزل جيد، منزل رائع. لاحِظوا كيف أن الطلاب كانوا يتخطّون في كثير من الأحيان انتمائهم الاجتماعي وطبقتهم، في ذلك السن المليء بالآمال وبالكثير من الأحلام.
ولهذا، بالرغم من الانتماء الطبقي لتلك الجامعة، لم يكن يوجد لدراسة الطب إلا كلّية واحدة ومستشفى تعليمي واحد، وكان كثيرون يحصلون على جوائز، الجائزة الأولى بالطب، بل وأن بعضهم الجائزة الأولى بالجراحة من دون أن يكون قد سبق لهم أن أجروا عملية جراحية لأي أحد كان.
كان بعضهم يحقق ذلك، حيث كانوا نشيطين، فيقيمون علاقة ما مع بروفيسور ما يساعدهم، فيحملهم إلى ممارسة تطبيقية ما، يأخذهم إلى مستشفى ما. هكذا نشأ أطباء جيّدون، وليس جمع من الأطباء الجيدين –إنما نعم كان هناك جمع توّاق للذهاب إلى الولايات المتحدة-، ممن كانوا عاطلين عن العمل، وعندما انتصرت الثورة رحلوا إلى الولايات المتحدة بالذات، وبقي هنا ثلاثة آلاف و25 بالمائة من الأساتذة. ومن هذا الوضع انطلقنا نحو بلد اليوم، الذي أصبح يبرز بكونه ما يشبه عاصمة الطب العالمي.
يتمتع بلدنا اليوم بما لا يقل عن خمسة عشر طبيباً، وعلى نحو أفضل بكثير من التوزيع، مقابل كل واحد من الذين بقوا هنا في البلاد؛ ولديه عشرات الآلاف في الخارج، وهذا العدد آخذ بالنمو؛ يوجد في السنة الأولى حوالي سبعة آلاف، وسيلتحق بالدراسة ما لا يقل عن سبعة آلاف في كل سنة، وأصبح لديه الآن أكثر من سبعين ألف طبيب. وأنا لا أتكلّم عن عشرات الآلاف من طلاب علوم طبية أخرى، فعندنا فكرة بأنه يجتاز العلوم في مجال الطب ما مجموعه حوالي تسعين ألفاً إذا ما حسبنا الممرضات، اللواتي يقمن بدراسة إجازة في التمريض وغيرها من الاختصاصات المتصلة بالصحة، في إطار الحجم الهائل من الطلاب الذين تتمتع بهم جامعتنا.
أردت أن أشير إلى الفارق بين تلك السنة التي دخلت فيها إلى الجامعة، ماذا كان عليه بلدنا؟ لا بد من طرح هذا السؤال على النفس والتمعّن، ما هو عليه بلدنا اليوم، في جميع الميادين. ويمكن طرح السؤال نفسه فيما يتعلق بثمانية، عشرة، خمسة عشر، عشرين شيئاً. ليس هناك من مقارنة ممكنة.
قلت بأن باربيران وكوجار قضيا في طائرة صغيرة مليئة ببراميل البنزين، لأنه كان الأمر الوحيد الذي بوسعهما... أقلعا، خرجا كما خرجنا نحن تقريباً من المكسيك عام 1956: إذا خرجنا، سنصل؛ وإذا وصلنا، سندخل؛ وإذا دخلنا، سننتصر. يبدو أن رجالاً من قبلنا قاموا بعمل بالغ الجرأة كذلك العمل، كاجتياز المحيط الأطلسي. غادرا ووصلا إلى كوبا، وعاودا المغادرة؛ ولكنهما وصلا إلى المكسيك، مع أنهما وصلا بلا حياة.
تحدّثت عن طائرة أقلعت؛ وكانت هذه طائرة أقلعت في الآونة الأخيرة، طائرة صغيرة، بدا وكأنها تتحرك بقوة ربطة مطاطيّة. ألم تروا أنتم أبداً تلك الطائرات الصغيرة التي يربطونها لعصبة مطاطية ويتركونها، فتقلع وتصل؟ حين انتصرت ثورتنا في هذا النصف من العالم، إلى جانب الإمبراطورية ومحاطة بعملاء الإمبراطورية، ببعض الاستثناءات، بدأنا شق طريق بالغ الصعوبة. كان الزمن آنذاك قد تغيّر، فقد كان ذلك بعد سنوات عديدة من دخولنا إلى الجامعة.
دخلنا نحن إلى الجامعة في نهايات عام 1945، وبدأنا نضالنا في ثكنة "مونكادا" في السادس والعشرين من تموز/يوليو، أي بعد ثماني سنوات في الواقع، وانتصرت الثورة بعد الهجوم على ثكنة "مونكادا" بخمس سنوات وخمسة أشهر وخمسة أيام، وذلك بعد رحلة طويلة في السجون والمنفى والنضال في الجبال. إذا ما نظرنا إلى تلك الفترة من الناحية التاريخية، وإذا ما قارناها بالحقبات السابقة من النضال بالغ الصعوبة والقسوة الذي خاضه شعبنا، نجد بأنها كانت فترة قصيرة نسبياً، وقد تمت على مرحلتين: الدخول إلى الجامعة، ومغادرتها وانقلاب العاشر من آذار/مارس 1952.
تلك المرحلة التي بدأنا بها النضال، هي النقطة التي يتوجب علينا أن ننطلق منها الآن؛ لقد انطلقنا، حاولنا الانطلاق، لم نكن نعرف بشكل جيد جداً ولا حتى قانون الجاذبية، كنّا نكافح بعناء ضد الإمبراطورية، التي كانت قد أصبحت هي الأقوى، ولكن ذلك في وقت كانت توجد فيه قوة عظمى أخرى، كما كنّا نسمّيها، وكان عبر مسيرة قاسية أن أخذ عود شعبنا وثورتنا يصلب، إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه الآن.
ليت أن لديّ مزيداً من الوقت أتكلّم فيه، ولكن هذه "الآن" التي نقولها في هذه اللحظة هي "آن" لم يسبق لها مثيل، إنها لحظة تختلف عن كل باقي اللحظات، لا تشابه بشيء لحظة عام 1945، لا تشابه بشيء لحظة عام 1950 حين تخرّجنا، ولكننا كنّا قد أصبحنا أصحاب كل تلك الأفكار التي تحدثت عنها يوماً، عندما أكدت بحب وباحترام وبحنان عميق، بأنه في هذه الجامعة التي وصلت إليها بكل بساطة بروح ثورية، وببعض الأفكار الأساسية عن العدالة، أصبحت ثورياً، أصبحت ماركسياً-لينينياً، واكتسبت الأحاسيس التي كان لي على مدار السنين امتياز عدم الشعور أبداً، ولا بالحدّ الأدنى، بإغراء التخلي عنها. ولهذا أتجرأ على التأكيد أنني لن أتخلى عنها أبداً.
وما دام الأمر يتعلق بكشف أسارير، أقول بأنه حين أنهيت هذه الجامعة كنت أظن نفسي بالغ الثورية، بينما كنت أنا، وبكل بساطة، أشرع بشق طريق أطول بكثير. إذا ما كنت أشعر بأنني ثوري، وإذا ما كنت أشعر بأنني اشتراكي، وإذا كنت قد اكتسبت المشاعر التي صنعت مني ثائراً، فلا يمكن وجود أي شعور آخر غير هذا، أؤكد لكم بتواضع بأنني أشعر بنفسي ثورياً اليوم بمقدار عشرة أضعاف، وربما مائة ضعف، ما كنت عليه آنذاك (تصفيق). إذا ما كنت آنذاك مستعداً لوهب حياتي، فإن استعدادي اليوم لوهب حياتي يزيد عن استعدادي آنذاك بألف مرة (تصفيق).
بل وأن الإنسان يهب حياته لقضية نبيلة، لمبدأ أخلاقي، لحسّ بالكرامة، حتى قبل أن يكون ثورياً، وكذلك قضى عشرات الملايين من الأشخاص في ساحات المعركة خلال الحرب العالمية الأولى وفي حروب أخرى حباً منهم لرمز، لراية وجدوها جميلة، لنشيد وجدوه جميلاً، كما كان عليه نشيد المرسيّيز في عصره الثوري، ومن ثم نشيد الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية. باسم تلك الإمبراطورية الاستعمارية وباسم تقاسم العالم قضى ملايين الفرنسيين جماعياً في الخنادق، خلال الحرب العالمية الأولى. وإذا كان الإنسان مستعداً... الإنسان هو الكائن الوحيد الواعي لوهب حياته بشكل طوعي، فهو لا يصارع بدافع الغريزة، ككثير من الحيوانات التي تصارع بدافع الغريزة، فأدت بها قوانين الطبيعة إلى الانقراض؛ الإنسان هو المخلوق الوحيد القادر على أن يتجاوز، عن وعي، كل الغرائز، فالإنسان هو كائن مليء بالغرائز، بالأنانية، فهو يولد أنانياً، والطبيعة تفرض عليه ذلك؛ الطبيعة تفرض الغرائز عليه، التربية تفرض الفضائل؛ والطبيعة تفرض عليه أموراً من خلال المعارف؛ غريزة البقاء هي إحداها، يمكنها أن تؤدي به إلى الرذيلة، بينما يستطيع الوعي أن يؤدي به إلى أعظم الأعمال بطولة. لا يهم كيف يكون عليه كل واحد منّا، كم نحن مختلفين أحدنا عن الآخر، ولكننا نشكل كلاً واحداً فيما بيننا.
يضحي أمراً مدهشاً أنه بالرغم من الاختلاف بين أبناء البشر يمكن أن يكونوا واحداً في لحظة ما ويمكنهم أن يكونوا ملايين، ولا يمكنهم أن يكونوا ملايين إلا من خلال الأفكار. لم يتبع أحد الثورة انطلاقاً من عبادة أحد أو لتعاطفه الشخصي مع أحد. عندما يصل الاستعداد للتضحية عند شعب إلى ما هو عليه عند أي من أولئك الذين يحاولون قيادته بوفاء وصدق نحو مستقبل، لا يمكن ذلك إلا من خلال مبادئ، من خلال أفكار.
أنتم تقرأون باستمرار عن رجال فكر، وتقرأون باستمرار التاريخ، وتقرأون في تاريخ وطننا عن مارتيه، وتقرأون عن وطنيين بارزين كثيرين غيره، وفي تاريخ العالم، تاريخ الحركة الثورية، تقرأون لمنظّرين، لمنظّرين عظام لم يتراجعوا أبداً عن مبادئهم الثورية. إن الأفكار هي التي توحّدنا، إن الأفكار هي التي تصنع شعباً مناضلاً، والأفكار هي التي أصبحت تجعلنا ليس فرداً واحداً، وإنما ثواراً بشكل جماعي، وحين تجتمع قوة الجميع، حين لا يعود بالإمكان قهر شعب، وحين يضحي عدد الأفكار أكبر بكثير، وحين يتضاعف عدد الأفكار والقيم التي تتبلور، حينها تضحي أكبر قدرة أي شعب على دحر محاولة قهره.
هكذا، حين يتذكّر المرء الرفاق، وينظر إلى الشباب الذين لديهم مهام كبيرة؛ أولئك، كان كثيرون منهم قادة طلابيين في هذه الجامعة وأمضوا سنوات طويلة في النضال، أحدهم أكثر من غيره؛ يمكن لأحدهم أن يكون قد أمضى أكثر من خمسين سنة، ويمكن لغيرهم أن يكونوا قد أمضوا أكثر من أربعين، واليوم يشغل كل واحد منهم منصبه، وكثيرون منهم طلاباً، وآخرون منحدرون من عائلات فقيرة، كالذين أشاهدهم من هنا، بدءاً من أشخاص شاركوا في الهجوم على ثكنة "مونكادا" وأشخاصاً أتوا على متن يخت "غرانما"، وناضلوا في سلسلة جبال "سييرّا مايسترا" وشاركوا في كل المعارك؛ إنني أراهم هنا، أرى كل واحداً منهم، يدافع عن قضية، يدافع عن راية.
أرى، على سبيل المثال، رفيقي العزيز ألاركون. أتذكره لأنه جرى الحديث هنا عن المعركة من أجل الإفراج عن الأبطال الخمسة السجناء، وهو لا يكل في نضاله من أجل العدالة في ما يتعلق بهؤلاء الرفاق. إنها المهمة التي أوكلتها إليه الثورة، وقد أوكلتها إليه نظراً لمزاياه، لموهبته، لصفته كرئيس للجمعية الوطنية.
أرى الرفيق ماتشاديتو، الطبيب القديم، ولكنه ليس طبيباً مسنّاً، رافقنا هناك في الجبال. أرى لازو، وأرى لاخي، وأرى بالاغير، وأرى كثيرين هنا وهناك –ما زلت أرى بعض الشيء (ضحك)- أعتقد أنني أرى سايز، وأعتقد أننا نرى وزير التعليم العالي، أعتقد أنني أرى غوميز –إنه غوميز، ربما أكثر بدانة بعض الشيء-، وفي الخلف أرى آبيل، اسم إنجيلي، برز على نحو كبير للتو في مار ديل بلاتا، حيث تم خوض معركة مجيدة جداً.
لاحِظوا ما هو عليه هذا من عالَم، لاحظوا كم تغيّر حدث، ولاحِظوا ماهيّة الأهداف التي نسعى لتحقيقها. لاحِظوا الاستراتيجيات الآخذة بالتبلور، والتي تدخلنا نحن في إستراتيجية العالم، مع أننا بلد صغير جداً، هنا على مسافة تسعين ميلاً من الإمبراطورية الجبّارة، عن أقوى إمبراطورية عرفها التاريخ أبداً، وقد مرت 46 سنة، وهي الآن بعيدة أكثر من أي وقت مضى عن التمكّن من قهر الأمة الكوبية، الأمة التي أذلّوها وأساؤوا لها لمدة طويلة من الزمن (تصفيق)؛ تلك التي كانوا أصحاباً لها، أصحاب كل شيء فيها: المناجم، الأراضي، مئات الآلاف من أفضل الهكتارات من الأراضي؛ أصحاب مرافئها ومنشآتها ونظامها الكهرباء والمواصلات والمصارف والتجارة، إلى آخره، فيها؛ ويظن أولئك الأغبياء أنهم سوف يعودون إلى هنا وأننا سوف ندعوهم راكعين: "تعالوا لإنقاذنا من جديد، يا منقذي العالم؛ تعالوا، فنحن سنسلّمكم كل شيء من جديد، وهذه الجامعة، لكي تضعوا فيها خمسة آلاف وليس نصف مليون، لأن نصف مليون هو كثير بالنسبة لعقليتكم، الذين أردتم أن تروا عاطلين عن العمل وجائعين لكي تعمل تلك الرأسمالية القذرة، لأنها لا تعمل إلا على أساس جيش من الاحتياط؛ تعالوا وأنتِجوا من جديد العاطلين عن العمل الأميين الذين كانوا يقوموا بالطوابير على مقربة من حقول قصب السكر، من دون أن يعطيهم أحد قطرة مياه واحدة أو وجبة فطور أو غداء أو مأوى أو مواصلات. ابحثوا عنهم لنرَ أين ستجدونهم، لأن أبنائهم ها هم يدرسون هنا في الجامعات بمئات الآلاف" (تصفيق).
لقد شاهدت ذلك بأم عيني، ولم يروهِ لي أحد؛ شاهدته قبل 48 ساعة بالكاد؛ شاهدت ذلك في قصر المؤتمرات، أولاً عند مجموعة من عدة مئات، بكنزاتهم الزرقاء؛ شاهدته من خلال أولئك الشبان الذين تخرّجوا كعمال اجتماعيين وجميعهم اليوم، جميعهم، بدون استثناء! طلاب جامعيون، من السنة الأولى وحتى الخامسة من الدراسة، وذلك بعد سنة من الدراسة المكثفة ليتحوّلوا إلى عمال اجتماعيين، بعد سنوات عدة من اجتياز هذا الاختصاص. كانوا في البداية 500 وأصبحوا اليوم 28 ألفاً.
يقال أن أغرامونتي، ويقول آخرون بأنه سيسبيديس، وفي معرض ردّه على أسئلة المتشائمين، حين لم يكن لديه إلا 12 رجلاً، قال: "لا يهم أولئك عديمو الثقة" –ليست هي العبارة الحرفية، فأنا لا أذكرها تماماً في هذه اللحظة-، "فباثني عشر رجلاً يمكن صنع شعب". إذا كان يمكن بإثني عشر رجل صنع شعب، كم ضعفاً نبلغ اليوم من 12 رجل. و12 رجلاً، ضرب من يدري من الأضعاف، مسلحين بالأفكار، بالمعارف، بالثقافة، ويعرفون ما هو عليه هذا العالم، ويفقهون في التاريخ، ويفقهون بالجغرافيا، ويفقهون بالصراعات، لأنهم يتمتعون بما يسمى وعي ثوري، الذي هو اختصار لكثير من أنواع الوعي، إنه مختصر للوعي البشري، مختصر لوعي الشرف، الكرامة، أفضل القيم التي يمكنها أن تتبلور عند إنسان. إنه ابن حب الوطن وحب العالم، لا ينسى ذلك القول الذي ورد قبل أكثر من مائة سنة، بأن الوطن هو البشرية. الوطن هو البشرية، هو ما يتوجّب تكراره في كل يوم، حين يأتي أحد وينسى أولئك الذين يعيشون في هايتي، أو هم هناك في غواتيمالا، الكسيرة لأسباب يأتي من بينها الكارثة الطبيعية وتعرضها للآلام وللفقر اللذين لا يمكن روايتهما، كما يحدث عادةً في الجزء الأكبر من العالم.
هذا هو الأمر الوحيد الذي تستطيع الإمبراطورية المشينة ونظامها المثير للاشمئزاز عرضه، كمحصّلة للتاريخ في مسيرة الجنس البشري نحو مجتمع عادل لم يتم تحقيقه أبداً على مدار آلاف السنين، وهو التاريخ الوجيز جداً نسبياً المعروف عن حياة جنسنا في سعيه لمجتمع عادل. وطالما كان هذا المجتمع العادل يبلغ من البعد كما يبلغ من القرب في يومنا هذا، وفي سبيل الإثبات أنه أمر ممكن يتعلّق الأمر بالذات بالمجتمع الذي نريد نحن بناءه؛ ولكنني أتجرأ على أن أضيف، بالرغم من العدد الكبير جداً من العيوب والأخطاء والعلل التي ما زلنا نعانيها، إنه المجتمع الأقرب في تاريخ البشرية من إمكانية وصفه بأنه مجتمع عادل.
أين هي العدالة التي لا أراها؟ لا أراها لأن دخل ذاك يبلغ عشرين ضعف دخلي، ثلاثين ضعف دخلي أنا الطبيب، أو دخلي أنا المهندس، أو دخلي أنا الأستاذ في الجامعة، أين هي؟ ولماذا؟ ماذا ينتج ذاك؟ كم يبلغ عدد الذين يعلّمهم؟ كم يبلغ عدد الذين يعالجهم؟ كما يبلغ عدد الذين يبعث عندهم السعادة بمعارفه، بكتبه، بفنّه؟ كما يبلغ عدد الذين يبعث عندهم السعادة ببنائه منازل لهم؟ كم يبلغ عدد الذين يبعث عندهم السعادة لزرعه شيئاً يمكنهم أن يتغذّوا منه؟ كما يبلغ عدد الذين يبعث عندهم السعادة عبر عمله في معامل، في صناعات، في أنظمة كهربائية أو في أنظمة مياه للشرب أو في الشوارع أو في التمديدات الكهربائية، أو عبر عنايته بالاتصالات أو طباعته للكتب؟ كما يبلغ عددهم؟
هناك عدة عشرات من آلاف الطفيليات، ومن واجبنا قول ذلك، ممن لا ينتجون شيئاً ويتلقون مداخيل، يمكنها أن تبلغ قدراً كدخل ذلك صاحب السيارة العتيقة، والذي يشتري ويسرق المحروقات على طول الطريق من هافانا إلى غوانتانامو، حيث يحمل أحد هؤلاء الشبان الطلاب الذي اضطر للسفر في الوقت الذي تبلغ فيه ظروف المواصلات درجة عالية من الصعوبة، مقابل 1000 بيسو، 1200 بيسو على طول تلك الطرقات، المليئة بالحفر في أماكن كثيرة وتنقصها إشارات المرور التي لم نتمكن من إنجازها بالكامل لأسباب مختلفة، بسبب الموارد التي لم تتوفر لدينا، وبسبب مواطئ عجز لم نكن قد ذلّلناها، أو بسبب عدم إشراف القائمين على الإدارة.
نعم، يجب أخذها تماماً بعين الاعتبار وعدم نسيانها، لأننا أمام معركة كبرى من واجبنا خوضها، بدأنا بخوضها، وسوف نخوضها وسوف نربحها. إنه أهم شيء.
نعم، إننا نعي ذلك تماماً، وعلى وعي أكبر له، ونحن نفكّر بهذا الأمر أكثر من تفكيرنا بأي شيء آخر: بعيوبنا، بأخطائنا، بالفوارق التي لدينا، بالمظالم التي لدينا.
وما كان لي أن أتجرأ على ذكر هذا الموضوع هنا لو لم تكن عندي القناعة المطلقة والثقة المطلقة بأنه إذا ما استثنينا الكوارث العالمية، والحروب الطاحنة، لكنّا الآن نقترب على عجل من تقليصها وتذليلها لكي يتحقق شيئاً، أصغوا جيداً، وهو أن مواطني هذا البلد، الذين بلغت نسبة العاطلين عن العمل منهم خلال فترة من الزمن 10%، 15%، 20%، أو أكثر، مواطني هذا البلد الذين كانت نسبة الأميين أو شبه الأميين منهم تبلغ تسعين بالمائة، أبناء شعب اليوم هذا، وخاصة شعب مستقبل قريب جداً، سيعيشون كل مواطن من عمله بشكل أساسي ومن تقاعده وبدل إعاشته.
لا ينبغي أبداً نسيان أولئك الذين كانوا على مدى سنوات طويلة طبقتنا العاملة والشغيلة، الذين عاشوا عقوداً من التضحية، في وجه العصابات المرتزقة في الجبال، والغزوات مثل غزو خيرون [خليج الخنازير] وآلاف الأعمال التخريبية التي كلّفت الكثير من أرواح عمالنا في حقول قصب ومعامل السكر وفي الصناعة أو في التجارة أو في البحرية التجارية أو في صيد الأسماك، والذين كانوا يتعرضون فجأة لنيران المدافع وقذائف البازوكا، ليس إلا لأنهم كوبيين، ليس إلا لأننا أردنا الاستقلال، ليس إلا لأننا أردنا الارتقاء بمصير شعبنا؛ وهناك، حيث كان أفراد العصابات يقومون بأعمالهم، حيث أفراد العصابات المجنّدين والمدرّبين من قبل وكالة الاستخبارات المركزية، وهناك حيث المجرمين، هناك حيث الإرهابيين الذين يفجرون الطائرات وهي في الجو أو يحاولون تفجيرها، من دون أن يهمّهم من يموت فيها، هناك حيث الذين ينظمون أعمال تفجير من كل نوع والأعمال الإرهابية ضد بلدنا، هل الإمبراطورية تغيرت يا ترى؟ وأين هو، أيها "الصغير بوش"، بوسادا كارّيليس، ماذا فعلتم به، أيها السيد الكريم، الذي بالرغم من أمور معروفة ومخجلة تخيّلون وتحاولون الإمساك بزمام الإمبراطورية؟ متى ستجيبون على ذلك السؤال الصافي، السهل جداً، الذي وجهناه لكم في أحيانٍ كثيرة؟ من أين دخل بوسادا كارّيليس إلى الولايات المتحدة؟ بأي قارب، وعبر أي مرفأ؟ مَن مِن أولياء العهد صرّح له بذلك، أتراه شقيقكم السمين في فلوريدا؟ -وليعذرني على كلمة سمين، فهذا ليس نقد، وإنما اقتراح عليه بأن يمارس التمارين ويقوم بحمية، أليس كذلك؟ (ضحك)، إنما أفعل ذلك من أجل صحة السيد.
مَن استقبله؟ من أعطاه الإذن؟ لماذا يروح ويجيء بحريّة في شوارع فلوريدا وميامي ذلك الذي حمله بشكل مخزٍ جداً إلى هناك؟ ماذا حلّ بتلك الأكاديمية؟ أكاديمية ماذا هي، أهي أكاديمية ملاحة أم أكاديمية تربية أسماك؟ ماذا كان عليه ذلك الهمجي؟ ذلك الذي تحدث عبر الهاتف مع إرهابي آخر كان بحوزته بضع علب من الديناميت وعندما سأله، وكان الصوت صوته، وقد عرف ذلك كل العالم، ولم يكن بوسعه نفيه، حين سأله ماذا يفعل بتلك العلب، قال له: "اذهب إلى تروبيكانا، ألقِها من النافذة واقضِ على كل ذلك". لاحظوا ما عليه هؤلاء الناس من نبل، من محترِمين للقوانين، للأعراف الدولية، لحقوق الإنسان. وفاقد الوجل "بوش الصغير" لم يشأ أن يجيب بعد، فهو هناك صامت ولم يجب أي أحد آخر.
سلطات البلد الشقيق، المكسيك، لم يتسع لها الوقت أيضاً –يبدو أن الأمر كذلك- لتجيب على السؤال، الذي لا يكلّف شيئاً القول بأن بوسادا كارّيليس، هذا الصبي الساذج، الساذج والبريء، قد دخل بذلك القارب، عبر ذلك المرفأ وبالطريقة التي كشفت عنها كوبا.
ولكن لاحِظوا كم هم وقحين، فهم يقولون كل ما يمكن قوله من أكاذيب، ولكن يوجَّه لهم سؤال ساذج، سؤال بسيط، وتمرّ أشهر ولا يجيبون بكلمة واحدة. وهكذا مرت أشهر ولم يكونوا يعرفون أين هو بوسادا.
هذه الفتاة الذكية جداً، ما اسمها؟ التي هي وزيرة الخارجية (ضحك)، كوندوليزا (Condoleezza) أَم كوندوليزّا (Condoliza). حسناً، كونتة رايس (ضحك)، لا تعرف أيضاً، تجهل، والمتحدثون الرسميّون يجهلون ذلك؛ لم يقولوا أكذوبة واحدة، لم يرتكبوا ولا أدنى ذنب يغتفر، إنهم أنقياء، يستحقون تصفيق العالم وثقته.
إنه أمر كاذب، هم لم يمارسوا التعذيب أبداً؛ إنه كذب، لم يتواطأوا أبداً مع الإرهاب؛ إنه كذب، لم يخترعوا الإرهاب أبداً، إنه كذب، وهم لم يمارسوا التعذيب في أي مكان كان؛ إنه كذب، لم يستخدموا الفوسفور الحي في الفلوجة. حسناً، يقولون بأن هذا صحيح، ولكنه قانوني، مشروع جداً وخلقي جداً استخدام الفوسفور الحي. مَن يريدون أن يُفزعوا؟
لقد كنّا شهوداً، وحين رأيت الرفاق هناك ورأيت آبيل، تذكّرت المعركة الكبيرة التي تم خوضها في مار ديل بلاتا، في الستاد وفي المقر الذي اجتمع فيه الرؤساء؛ لن أعلّق على هذه النقطة، ولكن الفرصة أتيحت لشعبنا لكي يرى، يلاحظ –وأنا أعرف وجهات النظر العامة- تلك المعركة الكبرى، واحدة في شارع والأخرى في شارع آخر، حيث كان يجتمع رؤساء الدول.
وما دمنا في الحديث عن التاريخ، لم يشهد تاريخ هذا النصف من العالم أبداً، أمراً مشابهاً لمعركة كتلك المعركة، حيث ذلك السيد صاحب الشخصية الكربة، ولكنها ليست كربة بسبب أفكاره السيرفانتية، إنما هو صاحب شخصية كربة لأنه يقوم بحركات، بأمور غريبة، ينظر، يملّ، يقومون بإضجاعه في الساعة الثانية عشرة ليلاً؛ ويمكن في أي يوم أن تنطلق الطائرات من حاملاتها وتقصف أرض أفراد العصابات تلك الذين، وبسبب انهماكهم بعض الشيء، عكّروا نوم الفارس الذي يمسك بقيادة الإمبراطورية، فبينما هو ينام، يمكن للجواد أن يذهب إلى حيث يشاء؛ وفي نهاية المطاف، يمكن للجواد أن يقود مصير الإمبراطورية على نحو أفضل مما يقوده به الفارس نفسه الذي يفترض أن ينام باكراً (تصفيق).
الحقيقة أنه من المؤسف جداً ألا يدوم الفجر مدة من الزمن أطول من التي يدومها، لأنه يمكن للعالم أن يكون في وضع أفضل على الأقل.
هكذا تسير عليه كل الأمور. لقد رأينا أشياء كثيرة لا ينبغي نسيانها.
بعضهم يأخذ بالسؤال إن كانت كوبا قد تكلّمت أم أنها لم تتكلّم، إن كانت كوبا قد اتخذت موقفاً أم أنها لم تتخذه. أنبّه من ذلك، لأن بعضهم آخذ بالدّس حول هذه الأمور. إن كوبا تتكلّم حين يكون عليها أن تتكلّم ولدى كوبا الكثير مما قوله، ولكنها ليست على عجلة ولا فارغة الصبر. إنها تعرف جيداً متى وأين وكيف تضرب الإمبراطورية ونظامها وعملائها.
يبدو أن بعضهم يظن أو يتظاهر بالظن أنه لم يكن هناك كوبي واحد في مار ديل بلاتا، أنه لم تكن هناك قوة ثورية كوبية بكل معنى الكلمة ومن الدرجة الأولى في تلك المسيرة المجيدة لعشرات الآلاف من مواطني العالم وخاصة منهم الأرجنتينيون، والذين أهانهم الإمبراطور بإرساء حاملات الطائرات، وحمله جيشاً معه، واستئجاره لكل الفنادق واستخدامه للآلاف من عناصر الشرطة. لم يكن أحد لأن يعتدي عليه جسدياً، ما دام ما رغب به هو إلقاء بيضة عفنة عليه؛ لا، فهو لا يستحق كل هذا التشريف، بأي شكل من الأشكال (ضحك).
والمواطنون الأرجنتينيون المتحضّرون جداً والمواطنون الواعون والمجرّبون جداً من هذا النصف من العالم، حيث النظام المفروض لم يعد قابلاً للديمومة ولا للخلاص، يعرفون ماذا يفعلون. قالوا بأنها ستكون مظاهرة سلمية، وأنهم لن يلقوا ولو ورقة واحدة، وبحشدهم لكل ذلك العدد من الناس تحت ذلك الرذاذ البارد، وسيرهم على مدى ساعات باتجاه الستاد وحشد جمع غفير هناك في ذلك الستاد، إنما لقنوا الإمبراطورية درساً لا يُنسى، لأنهم أثبتوا لها بأنهم أشخاص، بأنهم شعوب تعرف ما هي بفاعلة؛ ومن يعرف ما يفعل إنما هو يسير نحو النصر، وهذا هو أمر أكيد على الإطلاق. والذين لا يعرفون ما هم بفاعلين تسحقهم الشعوب.
لا نريد أن نضع حججاً بيد الإمبراطورية لكي تقوم باستعراض. في لعبة الشطرنج هذه بعشرين حجر، سنرى من يوجّه الضربة القاضية للآخر في النهاية.
حين أقول إمبراطورية أنا لا أقول الشعب الأمريكي، وليفهم هذا جيداً. الشعب الأمريكي سينقذ الكثير من القيم الخلقية، سينقذ الكثير من المبادئ التي ذهبت طيّ النسيان، وسيتكيّف مع العالم الذي نعيش فيه ما دام هذا العالم يمكن إنقاذه، ويجب إنقاذ هذا العالم. وجميعنا، فيما بيننا جميعاً وفي الصف الأول، من واجبنا أن نناضل في سبيل تمكّن هذا العالم من الخلاص وأفضل أسلحتنا لذلك وأقلها عرضة للقهر هو سلاح الأفكار.
بعضهم يتحدث عن معركة الأفكار، نعم، معركة الأفكار تلك التي خضناها على مدار سنوات، تتحول اليوم إلى معركة أفكار على المستوى العالمي. وستنتصر الأفكار، لا بد وأن تنتصر الأفكار. فلننقل هذه الرسالة، فلنفتح أعين البشرية المحكوم عليها بالانقراض. ما دامت لن تكون أبدية، ما دام محتمل جداً أن ينطفئ حتى نور الشمس يوماً ما؛ وما دام من المؤكد تقريباً أنه لن تكون هناك طريقة لنقل مادة حيّة وصلبة إلى مسافة تبعد مسافة سنين من الضوء عن هذا الكوكب، وقوانين الفيزياء هي أشد صرامة بكثير، أكثر دقة بكثير من القوانين التاريخية والاجتماعية.
على كل الأحوال أظن بأن هذه البشرية والأمور الكثيرة القادرة على إبداعها يجب المحافظة عليهما ما دام بالإمكان المحافظة عليهما. فالبشرية التي لا تعبأ لحماية الجنس البشري هي كالشاب الطالب أو الكادر المسؤول الذي يعرف أن حياته مقتصرة على عدد قليل من السنوات، ومع ذلك لا يهمّه إلا حياته هو.
ذكرت العديد من أسماء الرفاق الموجودين هنا، بعضهم ما زال أمامه بضع سنوات، وبعض آخر أمامه أقل منها، ولا أحد يعرف كم عددها، أنا لا أظن أبداً أن أحداً منهم يفكّر بالمحافظة على نفسه من دون أن يهمه ما سيكون عليه قدر هذا الشعب الرائع والمدهش، الذي كان في الأمس بذرة واليوم هو شجرة نمت وذات جذور عميقة؛ يوم أمس كان مليئاً بالقدرة الكامنة واليوم هو مليء بالنبل الفعلي؛ يوم أمس كان مليئاً بالمعارف في أحلامه واليوم هو مليء بالمعارف الفعلية، في وقت بالكاد هو يشرع بهذه الجامعة الهائلة التي هي عليه كوبا.
ولاحِظوا كيف يأخذ الكوادر الجدد بالنشوء، وهم كوادر شبان. ها هو إنريكي، الذي يقود هذا الجيش المؤلف من 28 ألف عامل اجتماعي، وبالإضافة للسبعمائة الذين يقومون بدراسة هذه المهنة النبيلة ويرتقون بها.
كما تعرفون، نحن منهمكون في معركة ضد الآفات الاجتماعية، ضد حرف الموارد، ضد السرقات، وها هي هذه القوة، التي لم نكن نتمتّع بها قبل معركة الأفكار، والتي صُمِّمت من أجل خوض هذه المعركة.
سوف أقول لكم شيئاً، لنرَ إن كان عمال البناء سيمتلئون بالحب القادم من النفس؛ فعندما يريدون أن يكونوا أبطالاً هم كذلك. ولكن، لا تظنّنّ أن سرقة المواد والموارد هو أمر نشأ اليوم، أو من الفترة الخاصة؛ الفترة الخاصة فاقمت هذه المسألة، لأن الفترة الخاصة خلقت الكثير من التفاوت، والفترة الخاصة مكّنت أناساً معيّنين من التمتع بكثير من الأموال.
أتذكر بأننا كنّا نقوم ببناء مركز هام جداً للبيوتكنولوجيا في بيخوكال. على مقربة من ذلك المكان توجد مقبرة صغيرة. كنت أنا أقوم بجولات هناك، وفي أحد الأيام ذهبت إلى المقبرة، فوجدت سوقاً هائلاً، حيث كانت قوة البناء تلك ومسؤولوها، وبمشاركة عدد كبير من عمّال البناء، تقيم سوقاً لبيع المنتجات: إسمنت، قضبان حديد، خشب، طلاء، كل ما يُستخدَم في البناء من مواد.
أنتم تعرفون بأن مشكلة البناء طالما كانت، وما تزال في يومنا هذا، مشكلة بالغة التعقيد. لدينا الموارد، وفي بعض الأحيان نقصت بعض المواد، وسوف نتمتع بها وهناك إمكانية للتمتع بموارد أكبر للبناء يوماً بعد يوم؛ ولكن يا لها من مأساة نعانيها مع عمال البناء، ويا لها من مواطئ ضعف يعانيها أرباب الفرق، الذين من واجبهم السهر على الإدارة.
لكن هذا ليس بأمر جديد. خلال الفترة التي ذكرتها لكم كان يتم استهلاك 800 كلغ من الاسمنت من أجل إنتاج طن واحد من الاسمنت المسلّح؛ وفي سبيل إنتاج طن من الإسمنت المسلّح الجيّد، من ذلك النوع الذي كانت تُصنع منه الأرضيات أو الأعمدة، قبل الفترة التي شُيِّدت فيها قلعة مورّو وكابانيا، التي تدوم أكثر بكثير من أشياء كثيرة يتم بنائها في العالم المعاصر، يحتاج الأمر لحوالي 200 كلغ. لاحِظوا كيف كان عليه التبذير، ما كان عليه حرف الموارد، وكيف كانت السرقات.
في هذه المعركة لمواجهة الآفات الاجتماعية لن تكون هناك هدنة مع أحد، كل شيء سيسمّى باسمه، ونحن سنلجأ إلى عفة كل قطاع. هناك أمر نحن واثقون به: أنه في قلب كل إنسان توجد جرعة كبيرة من الحشمة. عندما يبقى هو مع نفسه، لا يكون حاكماً متشدداً، رغم أن الواجب الأول على كاهل الثوري، برأيي، هو الواجب بأن يكون بالغ التشدد مع نفسه.
يُحكى عن النقد والنقد الذاتي، نعم، ولكن عادة ما تكون انتقاداتنا لمجموعة صغيرة، فنحن لا نلجأ لنقد أوسع، لا نلجأ أبداً للنقد في قاعة مسرح.
إذا ما قام موظف في وزارة الصحة، على سبيل المثال، بتزوير معلومة عن وجود بعوض "أيديس أيجيبت"، يستدعونه، ينتقدونه. أنا أعرف بعضاً ممن يقولون: "نعم، أنتقد نفسي"، ويبقون مطمئني النفس، والضحكة تملأ أفواههم! إنهم سعداء. آه! تنتقد نفسك! وماذا عن كل الضرر الذي أنزلته وكل الملايين التي ضاعت نتيجة هذا العبث أو طريقة التصرف هذه؟
نقد ونقد ذاتي، صحيح جداً، لم يكن لهذا وجود؛ ولكن إذا كنا نريد خوض المعركة علينا استخدام صواريخ من عيار أثقل، لا بد من اللجوء إلى النقد والنقد الذاتي في غرفة الصف، في الخليّة، ومن ثم خارج الخليّة، ومن ثم في البلديّة ومن ثم في البلاد.
فلنستخدم هذه الحشمة التي يتمتع بها رجال كثيرون بدون شك، لأنني أعرف الكثيرين ممن نسمّيهم بلا حشمة، وهم بالفعل يستحقون تصنيف بلا حشمة، وعندما يظهر في صحيفة محلية نبأ ما قام بفعله يمتلئون بالحشمة.
السارق يخدع، أو الذي يستحق نقداً على ما فعله يخدع، ويكون بذلك كاذب أيضاً.
على الثورة أن تستخدم هذه الأسلحة، وسوف تستخدمها إذا ما استدعى الأمر ذلك! يجب تفادي ضرورة اللجوء لذلك. سوف تضع الثورة وسائل التحكم التي يستلزم الأمر وضعها.
كان هناك كثيرون من السعداء، كما تقول الأغنية: "وأنت كيف حالك؟" كان بالإمكان سؤال ذلك لكثيرين ممن كانوا يحملون خرطوماً يعبئون به البنزين في الجرار أو يتلقون أموالاً من حديث النعمة، الذي لم يكن يريد ولا حتى أن يدفع ثمن البنزين الذي يستهلكه.
ولكن ما أقوله هو واقع وكانت هناك فوضى عامة، ليس في هذا الأمر فقط، ولكن في هذا الأمر كانت هناك خسائر، بين مسائل أخرى، بقيمة عشرات الملايين من الدولارات، يمكنها أن تكون ثمانين مليوناً –أصغوا جيداً، وما يعني ثمانين مليون من أموال كثيرة!-، ربما تكون 160 مليون، وربما تكون 200 مليون. هل تعرفون أنتم يا ترى ماذا يعني 200 مليون؟ أنتم درستم الحساب. ولكنكم سمعتم الحديث عن الجامعات في البلاد، أليس كذلك؟ نعم أم لا؟ أنتم مسؤلون في الجامعات، ولجميع الطلاب حقوقهم، بطريقة أو بأخرى، كل التصنيفات: طلاب، دورات نهارية عادية، طلاب مدارس ليلية، طلاب في هذا أو ذاك. وهل تعرفون كم يبلغ اليوم العدد الإجمالي للطلاب الجامعيين، المستوى العالي من التعليم؟ إذا لم تكونوا تعرفوا بوسعنا أن نبحث الأمر، فأنا قد وصلت إلى هنا وأنا أسأل عن بعض المعطيات: قل لي العدد بالضبط، 360 ألف. نعم، 360 ألفاً، نتيجة تعميم التعليم الجامعي.
من المؤكد أن فيسينو يعرف ذلك. لا يأخذ فيسينو على خاطره إن سألتُه عن هذه الأرقام، (يتوجه إليه بالكلام) وإذا لم تكن تعرفها لا تخجل من ذلك.
كم يبلغ عدد الطلاب النهاريين في جميع مراكز التعليم العالي في البلاد، بما فيه المراكز العسكرية؟
إذا لم يكن هو يعرف، لا بد وأن أحداً يعرف ذلك.
عدد المسجلين في برنامج التعميم هو هذا، وأبناء الدورات النهارية معاً، هذين الرقمين، هو ما كنت أقول بمناقشته، إنهم 50 ألف.
ولكن هناك تصنيفات أخرى، موجودة لدي.
(يوضح إنريكي أنه يندرج مساعدو الأساتذة، وبذلك يصل إلى 75 ألفاً، إذا ما أضيفوا إلى الـ 25 ألف جامعي، فإن عددهم يبلغ نحو 100 ألف).
يقول هنا بأن الرقم مقسوم أولياً: "141 ألف طالب في الدورة العادية النهارية".
"مائة وواحد وأربعون ألفاً يدرسون ضمن الدورات المخصصة للعمال".
أهم أنفسهم أم لا؟ أم أنهم مندرجين ضمن تصنيف الـ 360 ألف؟ مدرجون ضمن الـ 360 ألف طلاب برنامج التعميم. أهذا صحيح أم لا؟
(يشرح إنريكي أنه على حدة، أن هناك الدورة العادية النهارية، والدورة الخاصة بالعمال وتلك الخاصة ببرنامج التعميم).
هل قلت العادي النهاري؟ (يوضح له أن هذا هو الرقم الذي يجري تداوله)
هناك دورات للعمال الذين أصبحوا بالمستوى الجامعي، حين ينتقلون إلى الجامعات أتصور بأنهم يكونون في عداد الـ 360 ألفاً؛ هناك 32 ألف يتلقون العلوم من على مسافة، ما هو تصنيف هؤلاء؟ هل يدخلون ضمن الـ 360 ألفاً؟ فهم ليسوا ضمن النظام العادي النهاري، وليسوا ضمن الدورة المخصصة للعمال، وهم طلاب. هذا النوع من التعليم موجود.
حسناً، سوف نعتمد الرقم الأكثر تحفظاً، فللغاية التي أنشدها منه يكفي.
يوجد في الوقت الراهن أكثر من 500 ألف طالب جامعي. ليس هباء أصبح لكم أنتم، اتحاد الطلبة الجامعيين، وجوداً في البلديات، حيث يبلغ عدد الاختصاصات التي تتم دراستها 45، وهو عدد ينمو سنوياً. يوجد 169 مقر جامعي على مستوى بلدية، تابعة لوزارة التعليم العالي؛ مائة وثلاثون مقر جامعي لمنطقة "ألفارو ريينوسو"، منها 84 في مصانع سكر صغيرة، والكثير منها هو من ضمن الرقم السابق؛ وهناك 18 مقر في السجون، وهي مراكز دراسات عليا يبلغ عدد المسجّلين فيها 594 في إجازة دراسات اجتماعية-ثقافية، ليسوا كثيرين بعد؛ 240 مقر جامعي تابعة للمعهد الوطني للرياضة والتربية الترفيهية، 19 مقر في سجون حيث يتلقى العلوم أيضاً 579 طالب، أنجز منهم مائتان السنة الأولى من الاختصاص. وهذا هو أمر جديد أيضاً: مقرات جامعية في السجون. من ناحية أخرى، يوجد 169 مقر جامعي بلدي للصحة العامة، يتم فيها اجتياز علوم إجازات مختلفة على صلة بالصحة العامة.
يوجد حوالي 100 ألف بروفيسور بين أستاذ ذو كرسي ومساعد. كثيرون ممن كانوا يتواجدون في الجهاز البيروقراطي لمصانع السكر وفي أماكن أخرى يقومون اليوم بتلقين الدروس، إنهم مساعدي أساتذة؛ وعليه فقد ارتفع عدد أساتذة المستوى العالي من التعليم. وبين الطلاب والأساتذة –أنا لا أتكلم عن عمال آخرين في الجامعات- يصل العدد إلى حوالي 600 ألف. من بين الطلاب هناك أكثر من تسعين ألفاً كانوا شباناً لا يتعلّمون ولا يشتغلون، وكثيرون منهم هم من الشريحة الكادحة، ويحققون اليوم نتائج ممتازة في الدراسات الجامعية.
هل أتوجه بسؤال، أم أذكر المعلومات المتوفّرة لدي؟
لقد سألت حتى اللحظة الأخيرة ما هي نفقة أو موازنة مراكز التعليم العالي. لقد وفّر لي كارلوس معلومة، أعتقد أنه قال 830. لا بد وأن فيسينو يعرف ذلك، لأنه على اطلاع على هذه المعلومات. هل تتذكّر هذه المعلومة، فيسينو؟
(يطرح فيسينو بأن الموازنة بلغت في العام الدراسي الماضي 230 مليون بيسو).
لا، ليت الأمر كذلك. توجد هنا معلومة، ربما يكون أحد على علم بها.
لاحِظوا، هذه هي وزارة المال. هذا هو العام 2004، وأنا أسأل عن موازنة عام 2005، فقد نمت الموازنة خلال هذه السنة على نحو هائل. المعلومة عن موازنة العام الماضي لا تنفعني يا فيسينو.
حسناًَ، ما يحدث لفيسينو يحدث لنا جميعاً، وهو موضوع حياة أو موت. قبل بضعة أيام كنت أتواجد أمام 200 مهني جامعي، ذوي تأهيل جيد، وتوجهت إليهم بسؤال: "من منكم يعرف ما يتم دفعه في منزله مقابل استهلاك الكهرباء؟"
أصغوا جيداً، أيتها الرفيقات والرفاق؟ ما هو برأيكم عدد الذين أجابوا على سؤالي؟ قوموا بحساباتكم، حسب المنطق.
ما هو رأيك، أنت الذي تكلّمت هنا؟ والرفيق، نجيب، الجميع نجباء، ولكن ليس الجميع يتمتع بسهولة الكلام. كم يبلغ برأيك عدد الذين أجابوا على سؤالي الموجّه لمائتي مهني جامعي (يقول له 100).
ما هو رأيك؟ هل تعرف أنت ما تنفقه؟ (يقول أن لديه فكرة) وما هي الفكرة، قلها لي بالمال وبالكيلواط؟ (ضحك). لا، انتظر، سأقولها لك أنا إن ذكرت لي أنت كم لمبة عادية عندك وما هي ماركة الثلاجة، وإن كان التلفاز بالأبيض والأسود أم بالألوان وذكرت لي سنة إنتاجه، وأي مروحة لديك، وكم مرة تغلي ماء في اليوم، وفي أي وعاء تغليها، وإن كان باستخدام غاز التمديدات أو الكاز أو غاز الأسطوانات. المسألة هي أنني لا أريد أن أتوجه بالسؤال لكم، من أجل حمايتكم، الأمر الوحيد الذي طلبته هو أن تجروا لي تقديراً عن عدد الذين أجابوا على سؤالي من بين المائتي طالب عن حجم فاتورة الكهرباء.
وأنت، الذي تضحك، دعني أرى، ما هو تقديرك، التقريبي، 50، 70، 120 (يقول له أحدهم الثلث) وأنت؟ (يقول له أنه ما لا يقل عن 100). لا بد وأنك أنت تحاول أن تتذكر ما تستهلكه في منزلك خوفاً من أن أسألك، ولكنني لن أوجّه لك هذا السؤال (ضحك).
هل تعرفون عدد الذين أجابوا على السؤال من بين 200؟ أتعرفون كم؟ 0.0000 إلى ما لا نهاية. لقد درستم أنتم شيئاً من الحساب، وتستطيعون إدراك ذلك: لا أحد منهم، لا أحد على الإطلاق.
أنا أظن أن من واجب جميع مواطني هذا البلد أن يمعنوا في ذلك.
هل بوسعي أن أتوجه بهذا السؤال إليكم؟ لماذا حدث هذا؟ لا بد من التمعّن. لقد قلنا بأنه لا بدّ من تغيير العالم، لا بد من إنقاذه، وأننا في عالم يعيش لحظته الحرجة وهو أقرب ما يكون إلى نهايته المأساوية، وأنا لا أبالغ في ذلك من أجل إدهاشكم. يمكن أن تكونوا في سن أصغر من سني ويحدث ذلك. إنني أتكلّم من أجلكم، ومن أجل أبنائكم، ومن أجل أشقائكم، إن كانوا أصغر منكم أو أكبر. لم يتم أبداً إثبات ذلك على مدى تاريخ الإنسان الوجيز، وليس على مدى التاريخ الهمجي، حين كان قد أصبح إنساناً وطوّر قدرة ذهنية، مع أنه لم يكن يعيش في مجتمع، ولم يكن قد طوّر لغة مكتوبة، ولا حتى تكنولوجيا بدائية.
لماذا. إنكم ملزمون بالتفكير. أي قادة جامعيين هم أنتم؟ كارلوس، من أين أتت كل هذه القوة العاجزة عن إعطاء فكرة عن السبب الذي منع 200 مهني جامعي من الإجابة على السؤال المتعلق بفاتورة استهلاك الكهرباء؟ ما المدة التي تحتاجونها للتفكير؟ هل تكتفون بدقيقة؟ ( يشرح أحد الرفاق أن مرد ذلك هو قدرة العائلة الكوبية على تسديدها بسهولة، ولا يشكل ذلك همّا لها كما هو الحال في أماكن أخرى).
ما رأيك أنت؟ (يقول أن هذا يحدث لأنه زهيد جداً هو ما يتم دفعه)
ما رأيك أنت؟ (يعتبر أن الثورة توفر المعونة للجزء الأكبر من نفقات مواطنينا، والادخار هو محل اهتمام).
حسناً، سأتوجّه إليكم بسؤال آخر. إنكم تقتربون من معرفة السبب بالضبط، على الأقل كما أراه أنا، ولا أراه في ذلك فقط. هناك بعض الأسئلة التي يمكنها أن تكون أكثر تعقيداً، ولكن لا بد من حمل الناس على التفكير وعلينا أن نوجّه الدعوة لجميع أبناء وطننا الشرفاء، وحتى غير الشرفاء منهم، فيمكن لأحد هؤلاء الأخيرين أن يقول، "الحقيقة أنه للسبب كذا". هناك أسباب كثيرة. بكل بساطة لأن الكهرباء تقدَّم كهديّة، إنها هديّة. أستطيع أن أثبت لكم ذلك.
ثم تأتي لاحقاً أسئلة أخرى: "كم تبلغ أجورنا؟ وإذا ما خطر على البال سؤال "كم هي أجورنا" يبدأ إدراك حلم كل واحد بأن يعيش من راتبه أو من بدل تقاعده الذي يستحقه بجدارة.
أضيفوا لذلك شيئاً صغيراً آخر: عندما تفكّر بشقيقتين، إحداهما كانت معلمة، والآن تعيشان معاً، لديهما مشكلات، صعوبات، وكان دخلهما 80 بيسو كتقاعد، لأن الرواتب من قبل كانت أدنى، ثم جاءت فترات: "أدفع لك كذا مقابل دوام عادي، وأدفع لك أكثر إذا ما جئت يوم أحد للعمل"، ولم يكن يؤثر شيء من هذا على الراتب الأساسي، إنما يؤثر على الدخل الفردي للمعلم، وليس على راتب المعلّم، وبدل التقاعد، حسب القوانين، وكثير من هذه القوانين كان قديماً، وكان علينا أن نشرع بإلغائها، وأؤكد لكم أننا أخذنا باكتساب الوعي، والحياة كلها تعلُّم، حتى الثانية الأخيرة منها، وهناك أمور كثيرة تبدأ برؤيتها بطريقة، وبين ملايين من المواضيع التي تفكّر بها تراك شارد، لا تتنبّه إلى ظاهرة ما، والزيادات على المداخيل الشخصية حين حلّت الفترة الخاصة، تم القيام بها جميعاً تقريباً عبر تلك القوانين وليس على أساس راتب أساسي، ولهذا لم يكن هناك أي تردد مؤخراً حين تم رفع الحد الأدنى من المعاشات إلى 150 للعامل، وكان معاش السيدة 80، الحد الأدنى خمسين في أحد التصنيفات، وفي تصنيف آخر 190، وفي تصنيف ثالث 230. تصوَّر ذلك المعلّم أو تلك المعلّمة التي أمضت أربعين سنة، قبل أن ينشأ سوق الفلاحين الحر وأن يبدأ الوسطاء بالسطو على الجمهورية. نعم، فكل الناس تعرف بأن الفلاح لا يذهب إلى أي مكان كان ليبيع ثلاثة أرطال من الأرز. الفلاح ليس تاجر؛ الفلاح منتج. يكون عند أحدهم شاحنة لأنه سرقها، أو اشتراها، أو فعل ذلك بمال مسروق، لأنه وضع لها محركاً، أموراً كثيرة.
لا، ليس هذا بإساءة الكلام عن الثورة، إنه إجادة كبيرة بالكلام عن الثورة؛ لأننا نتكلم عن ثورة تستطيع الكلام عن هذا وتستطيع الإمساك بالثور من قرنيه، أكثر مما يفعل مصارع ثيران من مدريد. فهذا يضع له خرقة حمراء، ثم يأتي، يغلق الرجل عينيه، وفي بعض الأحيان يقوم بضربة رأس ويلغزه بمسمار، بقضيب، فيثيره؛ ولكن يجب الإمساك بالثور من قرنيه من أجل الحصول على الجائزة.
لم أكن أنا من هواة الثيران، مع أنني قرأت أعمال همنغوي، ولكنني كنت أذهب بين الحين والآخر إلى مصارعة ثيران، ولا أعرف ما اسمها. بعدها، الجائزة: ثور جيد، ذنب، أذن. من كان يفعل ذلك على وجه من الكمال كانوا يعطونه الأذنين وذنب واسم مجيد وحفلة رومانية لمصارعة الثيران. أنا لا أتدخل في ذلك.
أذكر أنه في بداية الثورة، لا أذكر على بال أي منّا خطر الحديث عن مصارعة الثيران. كنّا نبلغ من الجهل أننا كنّا نتكلم عن مصارعة الثيران، لأننا كنّا قد شاهدناها في المكسيك، وكنّا وقتها قد أصبحنا ثوريين، أو كنّا نعتقد بأننا كذلك.
إنكم تضحكون، ويسعدني ذلك، لأنه يحفّزني على رواية بعض الأمور الأخرى.
الاستنتاج الذي توصلت إليه بعد مرور سنوات كثيرة: من بين الأخطاء الكبيرة التي ارتكبناها، الخطأ الأكبر هو اعتقادنا أن أحداً منّا كان ملماً بالاشتراكية، أو أحداً يعرف كيفية بناء الاشتراكية. كانت تبدو وكأنها عِلماً معروفاً، يبلغ الإلمام بها ما يبلغه الإلمام بالنظام الكهربائي الذي استوحاه بعض الذين كانوا يعتبرون أنفسهم خبراء في الأنظمة الكهربائية. حين كانوا يقولون "هذه هي الصيغة"، فإن هذا هو سيد العارفين. كما لو كان أحد طبيب. فأنت لن تناقش مع الطبيب حول فقر الدم، حول المشكلات المعوية، من أي اختصاص كان، فالطبيب لا يناقشه أحد. يمكنك أن ترى فيه طبيباً جيداً أو سيئاً، ما أدراني، يمكنك أن تتبع إرشاداته أو لا، ولكن أحدا لا يناقشه. من منّا سيناقش طبيباً، أو عالماً في الرياضيات، أو خبيراً بالتاريخ أو بالأدب أو بأي مادة كانت؟ ولكننا نكون أغبياء إذا ما اعتقدنا، على سبيل المثال، بأن الاقتصاد –وليعذرني عشرات الآلاف من رجال الاقتصاد الموجودين في البلاد- هو علم دقيق وأبدي، وهو الموجود منذ عصر آدم وحواء.
يضيع كل معنى للديالكتيك حين يظن أحد بأن اقتصاد اليوم هذا هو ذات الاقتصاد الذي كان عليه قبل خمسين سنة، أو قبل مائة سنة، أو قبل 150 سنة، أو أنه كما كان عليه في عهد لينين، أو عهد كارل ماركس. وبفكري الذي يبعد عن التحريفية ألف ميل، أكرّم بحق كلاً من ماركس وإنجلز ولينين.
قلت في أحد الأيام "في هذه الجامعة أصبح ثورياً"؛ ولكن ذلك لكوني اطلعت على تلك الكتب، وقبل أن أعثر بجهدي الخاص ومن دون أن أقرأ أياً من تلك الكتب، كنت أشكك بالاقتصاد السياسي الرأسمالي، لأنه لم يكن يبدو لي عقلانياً، وكنت أدرس الاقتصاد السياسي في السنة الأولى عبر بورتيلا، 900 صفحة مطبوعة على الآلة الناسخة، وهي مادة قاسية جداً، وكان الجميع تقريباً يرسبون فيها. وذلك البروفيسور كان الهول بعينه.
هو اقتصاد كان يشرح قوانين الرأسمالية، ويذكر مختلف النظريات حول أصل القيمة، كما كان يذكر أيضاً الماركسيين والطوباويين والشيوعيين، وإلى ما هنالك، مختلف أنواع النظريات المتعلقة بالاقتصاد. ولكن مع دراستي للاقتصاد السياسي للرأسمالية بدأت أشعر بتساؤلات كثيرة وأشك في ذلك الاقتصاد، لأنني كنت قد عشت أيضاً في ملكية واسعة من الأراضي وكنت أتذكر أشياء كثيرة، ونشأت عندي أفكار تلقائية، على غرار العدد الكبير من الطوباويين الموجود في العالم.
فيما بعد، حين عرفت ما هي عليه الشيوعية الطوباوية اكتشفت بأنني شيوعي طوباوي، لأن كل أفكاري كانت تنطلق مما يلي: "ليس هذا بجيّد، إنه سيئ، إن هذا لحماقة. كيف يمكن أن تحل أزمات فائض إنتاج وجوع ما دام هناك مزيد من الفحم، مزيد من البرد، مزيد من البطالة، لأنه توجد بالذات قدرة أكبر على خلق الثروات. أليس بالأمر الأسهل إنتاجها وتوزيعها؟"
كان يبدو في ذلك الوقت، كما بدا لكارل ماركس أيضاً في عصر "برنامج غوته"، بأن حدّ الوفرة كان يكمن في النظام الاجتماعي؛ كان يبدو أنه بقدر تطوّر قوى الإنتاج كان يمكن إنتاج ما يحتاجه الإنسان من أجل تلبية احتياجاته الأساسية من النوع المادي والثقافي، إلى أخره، وبدون حدود تقريباً.
الجميع قرأوا ذلك البرنامج، وهو برنامج، بالمناسبة، يستحق كل الاحترام. يذكر بوضوح ما هو الفرق بالمفهوم بين التوزيع الاشتراكي والتوزيع الشيوعي، ولم يكن ماركس يحب التكهّن بالمستقبل أو رسمه، فقد كان بالغ الجدية، ولم يفعل ذلك أبداً.
عندما ألّف كتباً سياسية، مثل "الثامن عشر من برومار" و"الكفاح الأهلي في فرنسا"، إنما كان عبقرياً يكتب، كان عنده تفسير واضح. "بيانه الشيوعي" هو عمل كلاسيكي. تستطيع أنت أن تحلله، يمكنك أن تشعر بشيء من الارتياح تجاه بعض من الأمور أو تجاه بعض آخر. انتقلت أنا من الشيوعية الطوباوية إلى شيوعية تستند إلى نظريّات جادة عن التطور الاجتماعي مثل المادية التاريخية. في الجانب الفلسفي تعتمد على المادية الديالكتيكية. كان هناك الكثير من الفلسفة، والكثير من التناحر والخلافات. بالطبع، يجب إعارة الاهتمام اللازم دائماً لمختلف التيارات الفلسفية.
في هذا العالم الواقعي، الذي يجب تغييره، كرجل تكتيك ومخطط ثوري، من واجب كل ثوري بلورة تكتيك وإستراتيجية تفضي إلى الهدف الرئيسي المتمثل في تغيير العالم الواقعي. وليس بجيّد أبداً أي تكتيك أو إستراتيجية تفرِّق.
أتيحت لي أنا ميّزة التعرف إلى علماء ديانة التحرر مرة في تشيلي، حين زرت أليندي، عام 1973، والتقيت هناك مع كثير من القساوسة أو الممثلين عن مختلف الانتماءات الدينية، وكانوا يطرحون فكرة توحيد القوى والنضال، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية.
إن العام يحتاج وعلى نحو يائس للوحدة، وإذا لم نتمكّن من تحقيق الحدّ الأدنى من هذه الوحدة لن نصل إلى أي هدف كان.
قلت يوم أمس في اجتماع مع ممثل الفاتيكان لدى بلدنا أن واحداً من الأمور التي قدّرتها عالياً عند البابا يوحنا بولس الثاني هي روحه المسكونيّة. لأنني درست في مدارس معلّمين وأساتذة دينيين منذ الصف الأول وحتى الصف الأخير، في مدارس "الأخوة لا سايي" واليسوعيين، فهي كانت دينية، وكان عليّ أن أذهب إلى القدّاس في كل يوم. أنا لا أنتقد من يريد أن يذهب، ولكنني أعترض على إرغامك على الذهاب في كل يوم، وهو ما كان يحدث لي.
حسناً، إنها أمور كثيرة. بل وأنني تحدثت يوم أمس مع الأساقفة في كثير من هذه المواضيع باحترام وبروح إيجابية؛ تذكّرت ما قلته عن المسكونيّة، وتذكّرت أنني كنت ألاحظ في زمني حرباً مستميتة، جميع الأديان بعضها ضد بعضا: الكاثوليكية ضد اليهودية، البروتستانتية، الإسلامية، وهكذا كل واحدة منها، والحديث عن ديانة لمعتنقي ديانة أخرى كان كالحديث عن الشيطان.
بعد ذلك بسنوات، أخذت أرى بدهشة، أظن أنه بعد مجلس الأساقفة الذي انعقد في روما، الفاتيكان الثاني... كان له بالغ الأثر في خلق روح مسكونيّة، روح احترام لمعتقدات كل واحد من الآخرين.
تصوّروا الكنائس العديدة والقوية، الكنيسة الكاثوليكية، الكنيسة المسيحية، المدرسة الإسلامية. نحن أنفسنا نلاحظ اليوم أموراً بالغة الأهمية لم نكن نعرفها من قبل، عن الثقافات متجذرة الأصول والمعتقدات والعادات الدينية عند المسلمين، لأنهم يتواجدون هناك أطباؤنا في بلد مسلم يقومون بإنقاذ الأرواح. إنهم يعاملوننا بحب واحترام كبيرين. لن أدخل في التفاصيل، ولكنها أمور لها بالغ الأثر. هناك العديد من الأديان القويّة جداً ويعود عهد بعضها إلى آلاف السنين، 2500، 3000، وأخرى أقل من ذلك بقليل، 2000 سنة، وأخرى مئات السنين.
إنه مثال جيّد، لأنه إذا لم يتوحّد الحسّ الديني، أياً كانت الأفكار الخلقية أو القيم الأخلاقية أو الأهداف التي يتوخاها أي دين كان، لن تتحقق هذه أبداً إذا تعلّق الأمر بصراع العديد من الكنائس، سبع، ثمان، عشر، أو أكثر –هناك أكثر من هذا العديد بكثير-، جميعها في صراع بعضها ضد بعض آخر وتصدّ جميعها بعضٌ البعضَ الآخر.
ما جعلني أفكّر بهذه المواضيع هو الفكرة، الواضحة جداً بالنسبة لي، بأن القيم الخلقية هي جوهرية، فبدون قيم خلقية ليس هناك قيم ثورية.
لا أدرى لماذا تم اتهام الشيوعيين بالفلسفة القائلة أن الغاية تبرر الوسيلة، بل وأن المرء يتساءل في بعض الأحيان لماذا لم يدافع الشيوعيون عن أنفسهم بشكل أكبر بعد من ذلك الاتهام الذي ينسب لهم مقولة الغاية تبرر الوسيلة؛ أنا أعيد ذلك لأسباب تاريخية، بسبب النفوذ الهائل الذي مارسته أول دولة اشتراكية والثورة الاشتراكية الأولى والحقيقية، التي نشأت في بلد إقطاعي، ذي عادات وتقاليد ما تزال في جزء كبير منها إقطاعية، وحيث أغلبية المواطنين أميين؛ ولكنها كانت أول ثورة بروليتاريّة اعتباراً من أفكار ماركس وإنجلز، والتي طوّرها عبقري عظيم آخر وهو لينين.
درس لينين بشكل أساسي مسائل الدولة؛ لم يتكلّم ماركس عن التحالف العمالي-الفلاحي، فهو كان يعيش في بلد ذي تقدم صناعي كبير؛ لينين رأى العالم المتخلف، شاهد ذلك البلد حيث كان ثمانون أو تسعون بالمائة فلاحين، ومع أنه كان لديه قوة عاملة قوية في سكك الحديد وفي الصناعات، رأى لينين بوضوح مطلق ضرورة التحالف العمالي-الفلاحي، الذي لم يكن قد تكلّم عنه أحد؛ فالجميع كان قد تفلسف، ولكنهم لم يتكلّموا عن ذلك. وكان أن وقعت في بلد شاسع شبه إقطاعي، شبه متخلّف، أول ثورة اشتراكية، أول محاولة حقيقية لإقامة مجتمع متساوي، فلم يسبق لأي من الثورات السالفة، التي كانت ثورات رقيّة أو ثورات إقطاعية أو من العصور الوسطى أو مناهضة للإقطاع أو برجوازية أو رأسمالية أن طرحت أبداً المجتمع العادل، مع أنها تكلّمت كثيراً عن الحرية، المساواة، الأخاء.
على مدى التاريخ، أول جهد إنساني جاد لإقامة أول مجتمع عادل بدأ قبل مائتي سنة، أعتقد أنه في عام 1850 كُتب البيان الشيوعي، بل وما تزال هناك 45 سنة لكي تمر 200 سنة، ويُمكن أن يلاحَظ بعدها تطور الفكر الثوري.
بالدوغمائية ما كان بالإمكان أبداً الوصول إلى إستراتيجية. لقد علّمنا لينين الكثير، لأن ماركس علّمنا كيف نفهم المجتمع ولينين علّمنا كيف نفهم الدولة ودور الدولة.
كان لكل هذه العوامل التاريخية أثراً بالغاً في الفكر الثوري، وكانت هناك بالطبع ممارسات ظالمة، وفي بعض الأحيان مثيرة للاشمئزاز.
دفع هذا بالاتهام الافترائي أنه بالنسبة للشيوعي "الغاية تبرر الوسيلة". لقد فكرت كثيراً أنا في دور الخلقية. ما هي الخلقية عند الثوري؟ كل فكر ثوري يبدأ بشيء من الخلقية، بقليل من القيم التي زرعه آباؤه في نفسه، وزرعها المعلمون في نفسه، فهو لم يولد بتك الأفكار؛ كما أنه لا يولد وهو يتكلّم إنما هو أحد علّمه الكلام. وتأثير العائلة هو كبير أيضاً.
حين درسنا نحن حالات الشبان الموجودين في السجن بين عشرين وثلاثين سنة، رأينا المجتمعات التي نشأوا فيها، المستويات الثقافية لآبائهم، ولهم أثراً حاسم، لدرجة أنه خلال معركة الأفكار، توصلنا إلى استنتاج، بعد إجراء كل نوع من الأبحاث الاجتماعية من هذا النوع، بأن الجريمة في كوبا هي على صلة وثيقة بالمستوى الثقافي والوضع الاجتماعي للآباء؛ فقد كانت لا تصدَّق النسبة المتدنية جداً من أبناء المهنيين الجامعيين أو المثقفين الذين يخرجون عن القانون. كما أنه لم يكن يصدَّق عدد أولئك المنحدرين من عائلات لا تتوفر لديها تلك القاعدة الثقافية. وإحدى المشكلات الأخرى التي كانت تؤثر: تفكك الرابط الأسري بين أفراد عائلة كادحة ذات مستوى ثقافي متدني. بعض الأبناء لا يعيش مع الأب ولا مع الأم، وإنما مع عمة أو خالة، أو جدة تواجه مشكلات صحية أو من نوع آخر، الأمر الذي يؤثر بشكل بارز على مستقبل الطفل.
كان هذا حين استخدمنا الفرق الجامعية التي قامت بزيارة أفقر الأحياء، أو حين قررنا في أحد الأيام حشد الـ 700 طالب الذين قمت بعدها بتسليم كل واحد منهم شهادة، وقّعتها في الطائرة، وأنا في طريق العودة من أفريقيا، حيث قمت على مدى عدة ساعات بتوقيع آلاف الشهادات، نظراً للقيمة التي أوليتها لذلك العمل. كنت أزورهم أثناء قيامهم بالمهمة، وكم تعلّمنا. كان لا بدّ من رؤية ما يحدث في المجتمع. أردنا معرفة أمور كثيرة لم نكن نعرفها: كيف يعيش الناس.
كان في تلك المناسبة أن اكتشفنا، على سبيل المثال، أن هناك أمهات تعملن، يتلقين راتب، ولديهن في ذات الوقت ابناً ذا تخلف عقلي، نزيل الفراش ويحتاج لعناية طيلة الوقت، كان يحتاج لأن تفعلن له شيء. كان أحد أقاربهن يقوم بالاعتناء به إلى حين عودتهن من العمل. ويأتي اليوم الذي يرحل فيه هذا القريب، أو يموت، فكان على تلك المرأة أن تختار بين العمل، الذي يوفّر لها لقمة العيش، وبين العناية بابنها.
أريدكم أن تعرفوا أنه في تلك المناسبة قررنا أن كل امرأة تعيش في هذه الظروف من واجبها أن تختار، حسب مهنتها، وحسب احتياجاتها وأهمية عملها بالنسبة للمجتمع، بين تلقي الراتب مقابل عنايتها بابنها أو أن تغطي لها الدولة راتباً لأحد ما لكي يعتني بهذا الطفل بينما هي تقوم بعملها. إنه مثال واحد من بين أمثلة كثيرة.
كما ساعدت فرق الطلاب على إنقاذ أرواح أشخاص كانوا يهمّون بالانتحار، على سبيل المثال، وذلك بسبب مرض عقلي أو حالة اكتئاب لسبب آخر. كم اكتشفنا من الأمور! كان هناك لا أذكر إن كان عشرين ألفاً أو ثلاثين ألف شخص فوق الستين من العمر يعيشون بمفردهم ولم يكن عند كثير منهم ولو جرس صغير يبلغون بواسطته أحداً إن أصابهم ألم شديد في الصدر أو بأي مشكلة أخرى من هذا النوع. هذا ما كان عليه المجتمع.
رأينا المداخيل التي كان يتلقاها كل مواطن كبدل إعاشة أو ضمان اجتماعي. هناك معلومات كثيرة لم تكن تظهر في أي إحصاء. أخذنا باكتشاف أموراً كثيرة وبصنع أشياء كثيرة أو إعداد العدة لصنعها. وصل بنا الأمر لإعداد أكثر من 100 برنامج اجتماعي، عدد كبير منها أصبح تنفيذه جارياً منذ مدة من الزمن. لم نقم بنشر ما تم فعله. كم هي مجيدة تلك الأيام التي، وانطلاقاً من كوادر الشبيبة وبدعم الحزب وكل المؤسسات بشكل أساسي، تم خوض معركة الأفكار تلك من أجل عودة الطفل المخطوف في الولايات المتحدة.
علينا أن نشعر بالامتنان مدى الحياة للظروف التي عجّلت بهذه الطريقة من معرفتنا للمجتمع ومن تعلّمنا. أعتقد أنه لو لم نعش تلك التجربة ربما لم نكن نعكف اليوم على صنع ما نقوم بصنعه.
افتتحنا أول دورة للعمال الاجتماعيين. كانت هناك حاجة لمعروفة الحدود الدنيا من الرواتب. أريدكم أن تعرفوا أن زيادة الراتب قد تمت بعد التجول في كل أنحاء البلاد، وكانت ميزانية الرعاية الاجتماعية تبلغ ثلث ما تم وضعه هذه السنة، حيث تم إيصالها إلى ما معدّله 129 بيسو. كان أقوى ما تم فعله حين تم رفع بدل المعاش والتقاعد، حيث رُفع الحد الأدنى حتى 150، والتصنيف الثاني إلى 190 والتالي إلى 230. كما رُفع الحد الأدنى من الرواتب بشكل كبير.
كنّا نتحدث عن أهمية العامل الخلقي. يحتاج الأمر للبحث في أسباب المغالطة. أعتقد أنه وقعت أحداث تاريخية أثّرت في الفكرة القائلة أنه بالنسبة للشيوعي "الغاية تبرر الوسيلة"، أحداث دولية يصعب فهمها –والتي ذكرتها في أكثر من مناسبة- رغم كل السابقة التي تثبت المحاولة الفرنسية-البريطانية، وهما القوتان الاستعماريتين العظميين، الأكبرين في العالم، لدفع هتلر ضد الاتحاد السوفييتي. أعتقد أن المخططات الإمبريالية لدفع هتلر ضد الاتحاد السوفييتي ما كان لها أن تبرر أبداً معاهدة هتلر مع ستالين، فقد كان ذلك بالغ القسوة. فالأحزاب الشيوعية، التي كانت تتميّز بالالتزام، وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن "معاهدة مولوتوف-ريبينتروب" وللنزف سياسياً.
قبل تلك المعاهدة، أدت الحاجة للوحدة في مناهضة الفاشية في كوبا إلى تحالف الشيوعيين الكوبيين مع باتيستا، وكان باتيستا قد قمع إضراب نيسان/أبريل الشهير عام 1934 الذي جاء بعد انقلاب باتيستا على الحكومة المؤقتة عام 1933، ذات الطابع الثوري بلا جدل وجاء في جزء كبير منه محصّلة النضال البطولي للحركة العمالية والشيوعيين الكوبيين. قبل ذلك التحالف المناهِض للفاشية، كان باتيستا قد قتل عدداً لا يُحصى من الناس، وكان قد سرق مبالغ طائلة من الأموال، وكان حجر شطرنج بيد الإمبريالية اليانكية؛ ولكن الإيعاز جاء من موسكو: تنظيم جبهات مناهضة للفاشية. التحالف مع الشيطان. وهنا تحالفوا مع الـ "ABC" الفاشية ومع باتيستا، وهو فاشي من نوع آخر، مجرم وناهب للخزينة العامة.
نستطيع اليوم الحديث عن هذا الموضوع لأننا نسير اليوم نحو مراحل جديدة وجديدة.
كان أعضاء الحزب الشيوعي الكوبي المواطنون الأكثر التزاماً، أكثرهم عفافاً وأكثرهم تضحية في هذا البلد، كانوا يساهمون في الحزب؛ وكان النواب من الحزب يسلّمون جزءاً من مداخيلهم، كانوا الأشخاص الأكثر عفافاً في البلاد، بغض النظر عن الخط الخاطئ الذي فرضه ستالين على الحركة الدولية. كيف لنا أن نحمّلهم الذنب. ضعهم على محك الموافقة على شيء أو لا، برأيي أنه صحيح على الإطلاق: وحدة جميع الشيوعيين. "يا عمال العالم، اتحدوا!" أو تقطع آرب النظام والالتزام علناً في تلك الظروف.
أنا لست من الذين يأخذون بانتقاد الشخصيات التاريخية التي أظهرتها الرجعية العالمية بصورة شيطانية في سبيل محاباة البرجوازيين والإمبرياليين؛ كما لن أرتكب حماقة عدم التجرؤ على قول شيء من واجبي أن أقوله في يوم كهذا. من واجبنا أن نتحلى بجرأة الاعتراف بأخطائنا نحن أنفسنا لهذا السبب بالذات، لأنه بهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق الهدف الذي يجري السعي لتحقيقه. إذن، نعم، حلّت آفة تمادي في استغلال السلطة، وحلّت بشكل خاص عادة فرض سلطة بلد ما، حزب ما على باقي البلدان والأحزاب.
منذ أكثر من أربعين سنة ونحن نحافظ على علاقات مع الحركة الثورية في أمريكا اللاتينية، وهي علاقات بالغة الصلابة. لم يخطر على بالنا أبداً أن نقول لأي أحد ما يتوجب عليه فعله. بالإضافة لذلك أخذنا بملاحظة الغيرة التي تدافع بها كل حركة ثورية عن حقوقها.
إنني أتذكّر لحظات حاسمة، وأنا أقولها هنا ولن أذكر منها إلا جزءاً يسيراً: عندما انهار الاتحاد السوفييتي أصبح كثير من الناس بمفردهم، ومن بينهم نحن، الثوريون الكوبيون. ولكننا كنا نعرف ما يتوجب علينا فعله وما علينا فعله، وما هي الخيارات المطروحة أمامنا. كان باقي الحركات الثورية في أماكن كثيرة يخوض نضاله. لن أذكر ما هي، لن أقول مَن؛ ولكن الأمر تعلّق بحركات ثورية بالغة الجدّية، وقد سألونا إن كان عليهم أن يتفاوضوا أم لا أمام ذلك الوضع اليائس، إن كان عليهم مواصلة النضال أم لا، أو إن كان عليهم أن يتفاوضوا مع قوى الصف الآخر سعياً للسلام، في الوقت الذي كان يعرف فيه المرء إلى أين سيؤدي ذلك السلام.
كنت أقول لهم: "لا يمكنكم أن تطلبوا رأينا نحن، فأنتم الذين ستناضلون، أنتم الذين ستموتون، وليس نحن. نحن نعرف ما سنفعل وما نحن مستعدون لفعله؛ ولكن هذا الأمر تستطيعون تقريره أنتم فقط". وهنا كمن أقصى تعبيرات الاحترام لباقي الحركات، وليس محاولة الإملاء على أساس معارفنا وتجاربنا والاحترام الكبير الذي يشعرون به تجاه ثورتنا لمعرفة حجم وجهات نظرنا. لم يكن بوسعنا في تلك اللحظة أن نفكّر بسلبيات وإيجابيات القرارات التي يتخذونها بالنسبة لكوبا: "القرار قراركم"، وهكذا قررت كل واحدة منها، في لحظات حاسمة، الطريق الذي ستسير فيه.
نحن بلد صغير هنا في الكاريبي، على مسافة تسعين ميلاً عن الإمبراطورية وعلى مسافة بوصات عن قاعدتها غير المشروعة، الأضعف ألف مرة مما كان عليه الاتحاد السوفييتي في فترة إبرامه لمعاهدته مع هتلر، أو حين كان يعطي الأوامر لقادة الأحزاب الشيوعية. النازيون يغزون بولندا، بينما الجيش السوفييتي، الذي كان قد تم تطهيره، جرى تطهير كثيرين من خيرة وألمع قادته بفعل دسائس من النازية. وفي عهد جمهورية ويمار، التي نشأت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، في مرحلة الأزمة الاقتصادية المريعة، التيكمانت تعزز الحركة الثورية من ناحية والقوى القومية الرجعية من ناحية أخرى. يا لتاريخ ألمانيا من تاريخ.
كانت الفاشية في مرحلة ولادتها، وانتصر هتلر. انتصر في الانتخابات في وجه أحزاب بورجوازية نيوليبرالية وفي وجه قوى شيوعية مناضلة وثورية؛ ولكن الاستياء المريع عند الشعب الألماني من الذين فرضوا عليه معاهدة فرساي كان أقوى. وهكذا كان أن وصل هتلر إلى السلطة، من خلال صراع طويل الأمد.
في كتاب ألفه هتلر صرّح جهراً أن غايته كانت مد سلطته فوق الأراضي الروسية، إذ أن شعب ألمانيا هو من عرق أسمى بينما تلك الشعوب هي من عرق أدنى مرتبة. وكل هذا كان مكتوباً، ووقعت الحركة الشيوعية بين أفكار ومفاهيم بالغة الوضوح من حيث معاداتها للفاشية.
بعد سقوط كثيرين من الثوريين في بلدنا، وكان الشيوعيون أفضل الثوريين، أفضل حزب، أشرف الناس، تم مع ذلك اقتياد الحزب إلى الحلف المذكور مع باتيستا، الذي كان قد قتل طلاباً. كان الشبان رافضين جداً لحكمه، بينما كان العمال، الذين رأوا القادة الشيوعيين يدافعون باستمرار عن مصالحهم، صامدين وأوفياء للحزب؛ ولكن بين صفوف الشباب وفي قطاعات شعبية واسعة كان هناك رفض لباتيستا له ما يبرره.
أظن أن تجربة أول دولة اشتراكية، وهي دولة كان ينبغي أن تسوّي نفسها وليس أن تدمّر نفسها أبداً، هي تجربة مريرة جداً. لا تظنّنّ بأننا لم نفكّر في كثير من الأحيان في تلك الظاهرة التي لا تصدٌّق في أن تُدمَّر كما دُمّرت واحدة من أعظم القوى العالمية، وهي قوة كانت قد تمكّنت من موازاة قدرتها بقدرة القوة العظمى الأخرى، وهو بلد دفع بأرواح أكثر من عشرين مليون مواطن ثمن النضال ضد الفاشية، بلد حطّم الفاشية.
هل أن الثورات مدعوّة للانهيار أو أن الأشخاص يستطيعون جعل الثورات تنهار؟ هل يستطيع الأشخاص أم لا، هل يستطيع المجتمع أم لا أن يمنع الثورات من الانهيار؟ بإمكاني أن أضيف سؤالاً آخر: هل تظنون بأنه يمكن لهذه العملية الثورية، الاشتراكية، أن تنهار أم لا؟ (هتافات: "لا") هل فكرتم بذلك مرة؟ هل فكرتم بذلك بعمق؟
هل كنتم تعرفون بأمر كل هذا التفاوت الذي أحدّثكم عنه؟ هل كنتم تعرفون بعض العادات المنتشرة؟ هل كنتم على علم بأن بعضهم كان يقبض في الشهر أربعين أو خمسين ضعف ما يقبضه أحد هؤلاء الأطباء الموجودين هناك في جبال غواتيمالا، عضو في فرقة "هنري ريف"؟ ربما يكون موجوداً في مكان ناءٍ آخر من أفريقيا، أو على ارتفاع آلاف الأمتار، في سلسلة جبال هملايا ينقذ الأرواح ويقبض 5 بالمائة أو 10 بالمائة مما يقبضه لص صغير من هؤلاء الذين يبيعون البنزين لحديثي النعمة، يحرفون الموارد من المرافئ في شاحنات وبالأطنان، أو يسرقون في محال البيع بالعملة الصعبة، أو يسرقون في فندق من فئة الخمس نجوم، أو ربما يبدلون زجاجة الروم بواحدة أخرى جلبوها هم، فيضعونها مكان الزجاجة الأخرى ويجمعون كل العملة الصعبة التي يمكن أن تعود بها زجاجة روم، جيدة إلى حد ما، عند بيعها كؤوساً.
كم من طريقة للسرقة يوجد في هذا البلد؟ لماذا أقرأ في كل يوم في أراء المواطنين أن كثيرين يسألون عن موعد ذهاب الفتيان [العمال الاجتماعيون] إلى محلات البيع بالعملة الصعبة، ومتى سيذهب الفتيان إلى الصيدليات، ومتى سيذهب الفتيان إلى هنا أو هناك؟ لقد بعث قدراً كبيراً من الإعجاب هؤلاء الشبان، العمال الاجتماعيون، المتحدرون من عائلات كادحة وهم على درجة جيدة جداً من التحضير.
نظرت إلى تلك الوجوه، كما أستطيع أن أنظر إلى هذه الوجوه، وملامح الوجوه تقول أكثر مما تقوله أي مقالة صحفية، وأكثر مما يقوله أي كتاب، وتقول أكثر مما يقوله أي شعار. أنتم تعرفون جيداً أنه منذ الأزل، منذ أن وُجدت الملكية الخاصة، نشأت أيضاً الفوارق الطبقية وأن العالم لم يعرف إلا مجتمع الطبقات، أما ما هو غير ذلك فيعود إلى ما قبل التاريخ.
وكيف يمكنني أن أعرف أن كنتم أنتم تنحدرون من قطاعات كادحة؟ لم يصل أي منكم إلى الجامعة لأنه ابن ملاّك لمساحات واسعة من الأراضي.
هنا نتواجد نحن، وقد شرّفتموني بوضعي هنا. من منكم يملك والده ألف هكتار من الأراضي أو يضع يده على عشرة آلاف هكتار؟ لن أسأل كل واحد منكم، فيكفيني أن أراكم، فأحدكم في أحسن الأحوال هو ابن مهنيّ، بعضكم من الشرائح المتوسطة. لقد صفقتكم كثيراً لأنني أعرف من أين تنحدرون أنتم، وأنتم تعرفون أنه لم يعد يوجد اليوم من يقطع قصب السكر. ومن هم الذين كانوا يقومون بقطعه؟
كما يمكن شرح سبب عدم قطع قصب السكر اليوم، ليس هناك من يقطعها والآلات الثقيلة تقوم بسحق حقول القصب. مظالم العالم المتقدم ومعوناته أدت إلى جعل أسعار السكر على ما هي عليه في ذلك السوق، أسعار مزبلة السكر، بينما كانت أوروبا تدفع لمزارعيها ضعفي أو ثلاثة أضعاف هذا السعر.
في الوقت الذي لم يكن الاتحاد السوفييتي يدفع ثمن سكّرنا 27 أو 28 سنتاً ويدفع ثمنه بالنفط، كان ثمن السكر الذي يدفعه بالنفط أقل كلفة بالنسبة له من سكّر الشمندر الذي يتم إنتاجه بشكل حرفي تقريباً في حقول الاتحاد السوفييتي، البلد الذي كان الاقتصاد ينمو فيه بشكل تمددي، وليس مكثّف، وبالتالي فإن قوة العمل لم تكن تكفي أبداً، والسكر المنتج من الشمندر كان يشغل كثير من الناس.
ولكن الأمر وصل بنا لطرح هذا السؤال، وقد طرحته منذ زمن طويل، في وجه هذه الإمبراطورية العظمى التي تهددنا، لديها خطط انتقالية وخطط للتحرك العسكري في لحظة تاريخية معينة.
إنهم بانتظار ظاهرة طبيعية ومنطقية على الإطلاق، وهو وفاة أحد ما. في هذه الحالة شرّفوني جداً بالتفكير بي. أترى ذلك اعترافاً بما لم يتمكنوا من فعله خلال زمن طويل! لو أنني كنت مغروراً لكنت أشعر بالفخر لأن يقول أولئك البهاليل بأن عليهم أن ينتظروا موتي، وتكون تلك هي اللحظة. انتظار موتي، وهم يخترعون في كل يوم شيئاً جديداً، أن كاسترو يعاني هذا أو غيره من الأمراض. آخر اختراعاتهم هو انه يعاني داء باركنسون.
نعم، لقد تعرّضت لوقعة قويّة جداً، وما زلت أنتعش من هذا الذراع (يشير إليه) وهو يتحسّن. أشكر جداً الظروف التي كسرت فيها ذراعي، لأنها اجبرتني على اتباع قدر أكبر من الالتزام والنظام، وعلى مزيد من العمل، ولتخصيص قدراً أكبر من الوقت، تخصيص نحو 24 ساعة من اليوم لعملي؛ فإذا ما كنت أخصصها لذلك طيلة المدة التي استغرقتها الفترة الخاصة، فإنني أخصص اليوم كل ثانية وأناضل اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ وبالإضافة لذلك، ولحسن الحظ، أشعر أنني في وضع هو أفضل من أي وقت مضى، لأني أكثر التزاماً وأجري مزيداً من التمارين (تصفيق).
لقد قالوا باركنسون، وأتذكر أنه في اليوم التالي للزلّة قد قالوا بأنها تشقّقات، بالجمع، في الجزء العلوي من عظم العضُد، وحين هممت بكتابتها قيل لي: "لا، لأن الشُّعر بالجمع يعني كسر". حينها لم يعد أمامي خياراً آخر غير أن أقول: "اكتبوا شُعراً، فأنا سأشرح للشعب بأنه لم يكن هناك شق، لم يكن هناك شقوقاً". بل وأنه كان بوسعي أن أقول ذلك، لأنني في أي ظرف من الظروف لا أخشى العدوّ؛ ولكنني ظننت بأنني بكامل القدرة، وأن المشكلة هي مجرد حادث، فلم أتلقى ضربة في الرأس، فلو تلقيت الضربة في الرأس من المؤكد أنه ما كان لي أن أتواجد هنا؛ ركبت في سيارة إسعاف وحضرت إلى هنا، حيث قاموا أولاً بصنع صابونة ركبة جديدة من أجزاء الصابونة السابقة وعدا ذلك من الأمور. لا بد وأن أولئك الذين قتلوني عدة مرات كانوا سعداء، ولكنهم عانوا إحباطاً بعد الآخر، وأجبروني على العمل بشدة في مسألة الانتعاش يومياً لكي تكون صابونة الركبة هذه في وضع أفضل يوماً بعد يوم. ومن يدري: ليتران من الدم أريقا داخل الكتف والجزء العلوي من الذراع، لم يظهرا في صور الأشعّة.
لقد بذلت جهوداً، وما زلت أبذلها. ما تعلّمته هو أنني سأبقى حتى اللحظة الأخيرة أجري التمارين، لا أهمل أبداً، ولدي إرادة أكبر من أي وقت مضى في تناول ما ينبغي عليّ تناوله وعدم تناول غرام واحد أكثر مما عليّ.
يقولون الآن بأن وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه) قد اكتشف بأنني مصاب بداء باركنسون. وهذا الأمر هو أشبه ما يكون بالأبله الذي اكتشف بأنني أغنى رجل في العالم. يا لها من زلة! إنه حساب عالق علي تسديده. أقول لكم بأنني لم أتحدث عن هذا الأمر لأنني لم أتمتع في الآونة الأخيرة بمجال تلفزيوني حر: فبوسادا كارّيليس من جهة، وأعمال أفراد العصابات من جهة أخرى، وغير هذا كثير من الأمور شغلت كل الوقت. ولكن هذا الحساب أنا أحتفظ به، ومعركتهم خاسرة، وذلك الشخص وكل الذين أيّدوه سوف يواجهون لحظة سيئة بسبب زلّتهم تلك.. والآن يبدو أنهم لا يدرون ماذا سيفعلون، وربما لم يبق عندهم خياراً آخر غير الاستدراك. قالوا بأنني مصاب بداء باركنسون. عندما تكون أنت عاكفاً على إجراء تمارين، طبعاً، عليك أن تأخذ بتقوية الذراع عضلةً عضلة. كم من شخص كان عليّ أن أسلّم عليهم؟ آلاف، ويأتي بعضهم ويكاد يخلع لك ذراعك، ولا يمكنك أن تتفادى هكذا وضع. عليك أن تفعل كما يفعل بعضهم، عندما تلمسهم يقومون بتجليس الذراع لكي تعتقد بأنهم أقوياء وأنهم من الفولاذ. كلّما مدّوا لي الذراع من أجل التحية أفعل ذلك. ها قد أصبح هذه الذراع أقوى من هذا (يشير إلى الذراع الأيمن). ما رأيكم؟
ولكن وكالة الاستخبارات المركزية اكتشفت بأنني مصاب بداء باركنسون. حسناً، لا يهم إن أصبت بداء باركنسون. البابا كان مصاباً بداء باركنسون وقد تجول البابا في العالم على مدى سنوات طويلة، كانت عنده إرادة قويّة، ودبّروا له محاولات اغتيال، وأنا قلت: "دعني أرى كيف هو داء باركينسون الذي يصيبني، دعني أصوِّب (يصوّب بالسبابة بشكل ثابت) (تصفيق وهتافات)، وقلت آنذاك: إنها اليمنى.
طالما أجدت التصويب، لحسن الحظ، وقد حافظت على هذه القدرة، من غير منظار تلسكوبي طبعاً.
في اليوم التالي للحادث، قاموا بإرسالي إلى المستشفى، ثم أخرجوني، ثم حملوني إلى مكان آخر، وأنا لم أحتجّ، ولكنني كنت أدرك كل ما يدور حولي، لأن الأمر احتاج لأن يناقشوا معي إجراء العملية، وما سيقومون بفعلة بصابونة الركبة وكيف سيفعلون ذلك؛ وماذا سيفعلون بالذراع، وقلت: "ضعوا لي مخدراً موضعياً"، لأنه إذا لم أكن أشعر أنني في ظروف تسمح لي بفعل شيء في الواقع، أتصل بالحزب وأقول: "انظروا، أنا لست في ظروف تسمح لي بفعل شيء". لهذا انتقدت الأطباء، لأنهم قللوا بعض الشيء من حجم خطورة بعض الأمور. هذا الموضع، جراحة.. حسناً، وهذا الموضع، إنعاش، وقلت لهم: "في نهاية المطاف أنا لن أقوم بالرماية في الألعاب الأولمبية المقبلة للبيسبول كما لن أشارك في الألعاب الأولمبية". وقلت لهم: الخضوع لعملية، مسامير وغيرها كثير من الأمور، كان أكثر خطورة. إذا كان الشخص في العشرين أو الخامسة والعشرين بإمكانك أن تفعل له ذلك، ولكن كان يتحتم فعل ما يجب فعله، وإذا كنت تعرف أنك لست في ظروف تسمح لك القيام بواجبك، أن تقول: "يحدث لي كذا، من فضلكم، فليتولى أحد القيادة، فليس بمقدروي أنا أن أفعل ذلك ضمن هذه الظروف". إذا كنت سأموت أموت، وإذا لم أمت أستعيد قدراتي، فعلى كل حال يتمتع المرء ببعض الخبرة، ويتمتع المرء بعض السلطة والتي لم يتم كسبها بالكذب وبالعار. كان عليّ أن أهتم بهذه الأمور في تلك اللحظة.
لقد قلت في إحدى المناسبات أنه يوم أموت فعلاً لن يصدّق أحد ذلك، أنني سأستطيع أن أكون حينها كالـ (Cid Campeador) ["المحارب البطل" في رواية "دون كيشوت"]، الذي كانوا يحملونه على حصان ويكسبون به المعارك وهو الذي أصبح ميّتاً.
ماذا فعلت أنا؟ إنني أضعهم في مكان أو في آخر.
لا ينبغي الثقة بالإمبريالية أبداً، فهي غادرة ومستعدة للقيام بأي شيء: تعذيب في غوانتانامو، تعذيب في السجون العراقية، سجون تعذيب في بلدان اشتراكية سابقاً، فوسفور حي، ثم تؤكّد: "إنه السلاح الأكثر براءة والأكثر شرعية بين كل الأسلحة". في أي حال من الأحوال يفترض أنه لو كنت في مكاني أن يكون عندك قطعة سلاح وتكون في ظروف تسمح لك باستخدامه. أنفّذ هذا المبدأ. لدي قطعة "براونغ"، سعة 15 عياراً، تذكرت ذلك لأنني قمت بالتصويب. لقد أطلقت الكثير من الأعيرة في حياتي وطالما قلت بأنه لا...
أول ما أردت فعله هو أن أرى إن كنت أتمتع بالقوة اللازمة للتحكم بهذا السلاح الذي استخدمته دائماً. حرّكت المشط وعبأته ووضعت له صمام الأمان ثم أزلته وأخرجت المشط وأخرجت الأعيرة، وقلت: كن مطمئناً. كان هذا في اليوم التالي. كنت مطمئناً، شعرت بأن لدي المقدرة على إطلاق النار.
لدينا إجراءات قد اتُّخذت وإجراءات أخرى مزمَعة لكي لا تحدث مفاجأة، ومن واجب شعبنا أن يعرف بدقة ما الذي يتوجّب فعله في كل حالة. دققوا جيداً، يجب أن نعرف ما الذي يتوجّب فعله في كل حالة.
لن نصف، لن نروي للصغير بوش ما هي إجراءاتنا. إنما نعم، أستطيع أن أقول له: "أنظر، أيها السيد، سوف تنفجر، هذا إذا لم يكونوا قد لبطوك وأخرجوك من حيث أنت بسبب انتهاكك لقوانين الولايات المتحدة". نعم، فكل الناس آخذون بالتمرد عليه، كل الناس، كل الناس، فهم لا يجدون إلا جرائم وجرائم وجرائم.
إن الحال هو تماماً كما أقول، ولكن ضمن هذه المخططات، المترافقة بالاختراعات دائماً.
أنا لا أريد اليوم –وليت أنني لا أضطر لذلك- أن أقترح على وكالة الاستخبارات المركزية، التي تقوم بالبحث عن وضعي الصحي وعن درجة تملّك داء باركنسون منّي، القيام ببعض التحقيقات المتعلقة بالإمبراطور. لا أعتقد بأن هناك حاجة لفعل ذلك.
الغاية من كلامي ليست إهانات شخصية. إنني أقول ما أقول لأنه يعكس مفاهيم، يعكس استخفافاً، يعكس الفكرة الواضحة عندنا عمّا هي ضآلة المعرفة، عمّا هو الغباء، عمّا هي أمور أخرى كثيرة، ونستطيع أن نقترح على وكالة الاستخبارات المركزية –الغاضبة جداً بالمناسبة، لأنهم تجاهلوها، أذلّوها- إجراء بعض التحقيقات عن صحة الإمبراطور. طبعاً، وكالة الاستخبارات المركزية لم تقل كلمة واحدة عن الطريقة التي دخل بها بوسادا كارّيليس إلى الولايات المتحدة. لم يقل أحد شيئاً!
لقد وجهت إليكم سؤالاً، أيها الرفاق الطلاب، لم أنسَ ذلك ولا شيء من هذا القبيل، وبودّي ألا تنسوه أبداً، ولكنه السؤال الذي أدعه هنا أمام التجارب التاريخية المعروفة، وأطلب من الجميع، بدون استثناء، التأمل: هل يمكن أم لا يمكن العودة عن عملية ثورية ما؟ ما هي الأفكار أو درجة الوعي التي تجعل من العودة عن عملية ثورية أمراً مستحيلاً؟ عندما يأخذ بالرحيل أولئك الذين كانوا الأوائل، أصحاب التجربة، وتبدأ بالنشوء أجيال جديدة من القادة، ما الذي يتوجب فعله، وكيف يجب فعل ذلك؟ ما دمنا نحن كنا في نهاية المطاف شهوداً على كثير من الأخطاء ولم ننتبه حتى لها.
إنها هائلة قدرة القائد حين يكون متمتعاً بثقة الجماهير، حين تكون هذه تثق بكفاءته. وهي مريعة نتائج الخطأ الذي يرتكبه أولئك أصحاب أعلى السلطات، وقد حدث ذلك في أكثر من مرة في العمليات الثورية.
إنه أمر يملي المرء التفكير فيها. فهو يدرس التاريخ، ويقرأ ماذا حدث هنا، وماذا حدث هناك، يتأمل في ما حدث اليوم وما سيحدث في الغد، وفي الطريق التي تسير به عمليات كل بلد، في أي طريق سيسير بلدنا، وكيف سيسير، وأي دور ستلعبه كوبا في هذه العملية.
لقد عانت البلاد صعوبات من حيث الموارد، وهي صعوبات كبيرة جداً؛ ولكن هذا البلد لم يفعل غير تبذير الموارد، بكل نفس هادئة، وهكذا، في الوقت الذي كان يتم فيه إعطاؤكم قطعة صابون ليس لهh ولا حتى رائحة، ومعجون أسنان لغسل الفم، وذلك شهرياً، بشكل منتظم، في الوقت الذي كانت تقل فيه العناية في بعض المدارس ببعض النشاطات التي تسمح، على سبيل المثال، بالمحافظة على أسنان سليمة عند شباننا.. حتى التقاعس من هذا النوع كان موجوداً. كان هناك من يعتقدون أنه باتباعهم أساليب رأسمالية سيبنون الاشتراكية. إنه أحد أكبر الأخطاء التاريخية. لا أريد أن أتكلم عن ذلك، لا أريد التنظير؛ ولكن لدي عدداً لا يُحصى من الأمثلة على أنهم لم يعثروا على الإجابات الصحيحة في كثير من الأمور التي تم القيام بها، أولئك الذين يفترض أنه منظّرين، وبأنهم قد تشرّبوا حتى النخاع من كتب ماركس وانجلز ولينين وغيرهم.
كان لهذا أن قلت تلك الكلمة بأن أحد أكبر أخطائنا المرتكبة في البداية، وفي أحيان كثيرة على مدى عمر الثورة، هو اعتقادنا بأن أحداً كان يعرف كيفية بناء الاشتراكية.
برأيي أنه لدينا اليوم أفكار واضحة بما في الكفاية عن كيفية بناء الاشتراكية، ولكننا بحاجة لكثير من الأفكار بالغة الوضوح والأسئلة الكثيرة التي نوجهها إليكم أنتم المسؤولين عن كيفية التمكن من حماية الاشتراكية في الحاضر وفي المستقبل.
ما هو هذا المجتمع، أو أي سعادة يستحق حين نجتمع في مكان كهذا، في مثل هذا اليوم، إذا لم نكن نلمّ بالحد الأدنى مما يجب الإلمام به من أجل تمكين هذا الشعب البطل، هذا الشعب الذي سطر صفحات لم يسطرها أي شعب آخر في تاريخ البشرية، من صون الثورة في هذه الجزيرة البطلة؟ لا تظنَّن بأن من يتحدث إليكم هو شخص مغرور، محب للذات، أحد يحب الكلام عن نفسه.
لقدر مرت 46 سنة وتاريخ هذا البلد معروف، مواطنو هذا البلد يعرفونه؛ وتاريخ تلك الإمبراطورية المجاورة معروف أيضاً، حجمها، قوتها، جبروتها، ثروتها، تكنولوجيتها، سيطرتها على البنك العالمي، هيمنتها على صندوق النقد الدولي، هيمنتها على مصادر التمويل العالمية، ذلك البلد الذي فرض علينا الحصار الأشد فولاذية ولا يصدّق، وهو حصار تم الكلام عنه في الأمم المتحدة ووجد القرار الداعي لرفعه دعم 182 بلداً ممن صوتوا بحرية متحدين مخاطر التصويت العلني ضد تلك الإمبراطورية. وتحرز كوبا ذلك، ليس في الوقت الذي تمتعت فيه بدعم المعسكر الاشتراكي الأوروبي، وإنما بعد أن اندثر هذا المعسكر الاشتراكي، وبعد أن انهار الاتحاد السوفييتي أيضاً. ليس أننا قمنا بهذه الثورة فقط بمخاطرتنا خلال عدد طويل من السنوات، فقد كنا قد توصلنا إلى القناعة بأنه إذا ما تعرضنا لهجوم مباشر من قبل الولايات المتحدة سنناضل بأنفسنا، فلم يكن بوسعنا طلب ذلك.
مع تطور التكنولوجيات الحديثة كان من الساذج الاعتقاد أو الطلب أو الانتظار من تلك القوة العظمى أن تحارب ضد القوة الأخرى لو تدخلت في هذه الجزيرة الصغيرة الواقعة على مسافة تسعين ميلاً، وتوصلنا إلى القناعة الكاملة بأنه ليس من شأن هذا الدعم أن يحدث أبداً. شيء آخر: سألناهم مرة على نحو مباشر قبل عدة سنوات من اندثار الاتحاد السوفييتي: "قولوها لنا بصراحة: ‘لا‘". أجابوا بما كناّ نعرف ما ستكون عليه إجابتهم، وبعد ذلك عجّلنا من تطوير مفهومنا وارتقينا بالأفكار التكتيكية والإستراتيجية التي انتصرت بها هذه الثورة، وقد انتصرت بقوة بدأت كفاحها بسبعة رجال مسلحين، وواجهت جيشاً بلغ تعداد رجاله ثمانين ألفاً ما بين مارينز وجندي ورجل شرطة، إلى آخره، ودبابات وطائرات، وكل نوع من الأسلحة الحديثة بالنسبة لتلك المرحلة، فكان شاسعاً الفرق بين أسلحتنا وبين الأسلحة التي كان يتمتع بها ذلك الجيش، المدرّب على يد الولايات المتحدة، والمدعوم من قبل الولايات المتحدة، والمموَّن من قبل الولايات المتحدة. بعد تلك الإجابة، تشبثنا أكثر من أي وقت مضى بمفاهيمنا وعمّقناها وعززناها لتصل إلى مستوى يسمح لنا بالتأكيد اليوم أن هذا البلد هو منيع عسكرياً، وليس هذا بفضل الأسلحة النووية.
تفيض عن الحاجة عندهم الدبابات، ونحن لا تفيض عن حاجتنا واحدة، ولا واحدة! كل تكنولوجيتهم تنهار، إنه أشبه بثلج وسط متنزّه قائظ عند منتصف النهار. ومن جديد نجد أنفسنا كما كنّا ونحن معنا سبع بنادق وعدد قليل من الأعيرة، سبع بنادق وعدد قليل من الأعيرة! لدينا اليوم أكثر من سبع بنادق بقليل ولدينا شعب بأكمله تعلّم كيفية استخدام الأسلحة؛ شعب بأكمله يتمتع بهذا المستوى من الثقافة والمعارف والوعي، بالرغم من أخطائنا، لن يسمح أبداً بعودة هذا البلد لأن يتحوّل إلى مستعمرة لهم.
يمكن لهذا البلد أن يدمّر نفسه بنفسه؛ يمكن لهذه الثورة أن تدمّر نفسها بنفسها، ولكنهم هم من لا يستطيع تدميرها اليوم؛ نحن نعم، نحن نستطيع تدميرها، ومن شأن الذنب في ذلك أن يكون ذنبنا.
لقد حظيت بميّزة العيش سنوات كثيرة، وليس هذا بفضيلة، ولكنها فرصة ما فوق العادية لكي أقول لكم ما أقوله الآن، لكم ولكل قادة الشباب، لكل قادة المنظمات الجماهيرية، لكل قادة الحركة العمالية، ولكل قادة لجان الدفاع عن الثورة والنساء والفلاحين ومقاتلي الثورة، المنظَّمين في كل مكان، المناضلون على مدى سنوات، والذين قام مئات الآلاف منهم بمهمات أممية مجيدة، وطلاباً مثلكم، أذكياء، مؤهلين، سليمين، منظَّمين، تتواجدون في كل مكان، في كل واحد من هذه المقرات الأكثر من تسعمائة، الأكثر من ألف، الأكثر من ألفين التي سنتمتع بها على وجه من السرعة، وسيتواصل نمو هذا العدد حتى يستوعب أكثر من 500 ألف، 600 ألف، ولا أقول أكثر من ذلك لأن كثيرين سيأخذون بالتخرج في كل سنة. وأولئك الذين يتخرجون، مثل أطبائنا المتواجدين في فنزويلا، سيكون بإمكانهم الدراسة عبر الكمبيوتر وأشرطة الفيديو والكاسيت والوسائل المسموعة والمرئية، وذلك سعياً للحصول على درجة علميّة، ماجستير أو دكتوراه بالعلوم الطبية، جميعهم، مائة بالمائة.
يمكن الحديث اليوم عن عشرات كثيرة من آلاف الأخصائيين بالطب العام التكاملي، وفي الغد سيحتاج الأمر للحديث، شئنا أم أبينا، عن عشرات الآلاف من الدرجات أو الماجستير أو الدكتوراه بالعلوم الطبية، وهذا مجرد مثال. علينا ألا ننسى بأن عدد الأطباء عندنا لم يتجاوز في أحد الأيام الثلاثمئة، ولم يكن عندنا أساتذة جامعيون، ومن هذه الجامعة نفسها رحل كثيرون، ونقول اليوم بأنه خلال عدد قليل من السنوات سيبلغ عددهم 100 ألف طبيب، وحين تكون هناك حاجة لمائة وخمسين ألفا سيكون هؤلاء متوفّرين، وسيتوفر الأساتذة الجامعيون، كما سيتوفر لدينا مبرمجو ومصممو البرامج والأبحاث، بتغييرات كثيرة ومتنوعة، لأن علينا أن نلمّ بأشياء كثيرة في ذات الوقت، أكثر بكثير من الدرجات المختلفة التي نحصل عليها.
كنت أحدّثكم قبل قليل عن معركة، وسألت كم تكلّف. لا تظنّن بأن هؤلاء الفتيان، الثمانية وعشرون ألف عامل اجتماعي، سيصبّون عرقاً وسيضيّعون وقتهم سدى، فقد عبرت لكم كيف أنني تنبّهت إلى انتمائهم للقطاع الأبسط في البلاد، رأيت ذلك في وجوههم، فعلى نحو غير إرادي أخذت تتطور عادة التكهن حتى بالضيعة التي ينحدر منها أبناء وطننا. لقد فعلت ذلك على سبيل الممازحة وأقولها للأطباء الذين يغادرون للقيام بمهمات، وللعمال الاجتماعيين، بأن كل واحد منهم ينتمي لقبيلة صغيرة. أعرف أولئك الذين يأتون من مانسانيجو، على سبيل المثال، ومن هافانا، ومن غوانتانامنو، وأبناء سنتياغو؛ إنه لأمر مدهش أن ترى أبناء أبسط القطاعات الاجتماعية في البلاد وقد تحوّلوا إلى 28 ألف عامل اجتماعي وإلى مئات الآلاف من الطلبة الجامعيين، جامعيين؟ لاحظوا ما هي عليه هذه من قوة! وسرعان ما سنشهد أيضاً تحرك أولئك الذين خرّجناهم قبل أيام في المدينة الرياضية.
المدينة الرياضية تعلّمنا عن الماركسية-اللينينية؛ المدينة الرياضية تعلّمنا عن الطبقات الاجتماعية؛ والمدينة الرياضية جمعت قبل أسابيع قليلة نحو 15 ألف طبيب وطالب طب وبعضهم من المدرسة الأمريكية اللاتينية للعلوم الطبية وآخرون ممن جاؤوا حتى من تيمور الشرقية ليدرسوا الطب، لا يمكن أبداً نسيان ذلك. لا أظن بأن الأمر يتعلق بشعور شخصي عند أي واحد منّا.
لن ينسى هذا المجتمع أبداً تلك المشاهد للخمسة عشر ألف قميص أبيض التي اجتمع لابسوها هناك يوم تخرج طلبة الطب، اليوم الذي تم فيه تشكيل فرقة "هنري ريف"، التي بعثت عدداً كبيراً جداً من قواتها إلى الأمكنة التي وقعت فيها أمور ما فوق العادية، وذلك خلال مدة أقصر بكثير من التي كان بإمكاننا أن نتصوّرها.
بعيد ذلك تخرّج أولئك الشبان مرشدو الفنون، أكثر من ثلاثة آلاف، وكانت تلك الدفعة الثانية من الخريجين، بعد الدفعة الأولى التي أقيم حفل تخرّجها في سانتا كلارا. لقد أصبحوا 3000 مرشد جديد، فقد بدأوا نشاطاتهم؛ كما بدأ نشاطهم الثلاثة آلاف آخرون الذين يجتازون علوم السنة الأخيرة. وهكذا ستأخذ أعدادهم بالتضاعف، وسوف نجمع يوماً ما ما لا يقل عن نصف العمال الاجتماعيين الذين يقومون اليوم بتنفيذ واحدة من أبرز المهمات التي قامت بها أبداً مجموعة من الشبان، مجموعة من الأخصائيين بالعمل الاجتماعي، إلى جانب قوة من طلاب جامعيين شباب، لأنهم في ذات الوقت الشيء نفسه.
وماذا يمكن أن ينمّ عن عمل هؤلاء الشبان؟ أننا سنضع حداً لكثير من الآفات من هذا النوع: الكثير من أعمال السرقة، الكثير من أعمال حرف الموارد والكثير من مصادر تزويد حديثي النعمة بالمال.
هل يظن أحد بأننا سنصادر المال؟ لا، فالمال مقدس؛ كل من وضع ماله في المصرف لا يمكن المساس به.
لاحِظوا أمراً جديداً، سوف تتم مكافحة جملة كبيرة من الآفات الاجتماعية، أعمال السرقة، حرف الموارد، واحداً واحدا، محاربتها جميعاً، بترتيب لا يعرفه أحد. هل تشكّون بذلك؟، إنه أمر جيد جداً!.
ولكن، يا له من مستوى من التجذّر عند بعض الآفات الاجتماعية. بدأنا في بينار ديل ريّو لنرى ما الذي كان يحدث في محطات البنزين التي تبيع المحروقات بالعملة الصعبة. وسرعان ما اكتشفنا بأن ما كانت تتم سرقته يبلغ من الحجم ما يبلغه حجم المداخيل. كانوا يسرقون حوالي النصف وفي أماكن أخرى أكثر من النصف.
حسناً، ماذا يحدث في هافانا؟ هل سيرتدعون؟ لا، إنهم مطمئني النفس وسعداء. ربما ظنّوا بأن هؤلاء العمال الاجتماعيين هم مهابيل، طفلات وأطفال. لأن الطريف هو أن 72% من العمال الاجتماعيين هم نساء –لا أدري إن كان قد حدث أمر مشابه من قبل- ، كما هو حال الأطباء الذين يملأون صفحة هذا البلد بالمجد، عبر إعطائهم له مكانة كبيرة بإتاحتهم الفرصة له لكي ينشر راسماله البشري، ذي القيمة الأكبر بكثير من قيمة النفط. أكرر، هو ذو قيمة أكبر بكثير من قيمة النفط أو الذهب. أي بلد عنده نفط يقول: "يا له من حظ، لديّ هذا المورد الطبيعي الذي ينفد". ونحن كذلك، وسنزيد إنتاج النفط بالطبع. لحسن الحظ أننا لم نعثر عليه في السابق، لكي لا نخفض سعره على غير وجه حق.
الرأسمال البشري ليس بمتنج غير قابل للتجدد؛ إنه قابل للتجدد، بل وبالإضافة لذلك قابل للمضاعَفة. إن الرأسمال ينمو وينمو في كل سنة، ويتلقى ما كانوا يسمونه في شبابي الفائدة المركّبة: إجمع قيمته وتلقى فوائد مقابل هذه القيمة، وما تكسبه مقابل هذه القيمة بعد خمس سنوات هو رأسمال أكبر بكثير، وبعد مائة سنة ما لا يتصوره العقل.
اسمحوا لي أن أقول لكم بأن الرأسمال البشري اليوم هو أهم مورد للبلاد أو هو في طريقه ليكون كذلك على وجه من السرعة، ليتفوّق على باقي الموارد الأخرى مجتمعة. وأنا لا أبالغ في ذلك.
سألت ما هي عليه الكلفة الاقتصادية لجامعاتنا كلها.
بالمداخيل الجديدة التي تجمعها محطات البنزين –وطبعاً لن تظل هناك طيلة الوقت، فلا يتصوّرنّ ذلك- خلال ثلاثة أشهر فقط، اعتباراً من الآن؛ وإذا ما زاد عددكم في العام المقبل بنسبة خمسين بالمائة، تستطيع هذه المحطات تغطية نفقاتها الاقتصادية خلال أربعة أشهر. فقط بإجبار حديثي النعمة على دفع المحروقات التي يستهلكونها، يمكن سنوياً تغطية ما لا يقل عن أربعة أضعاف ما يكلفه الستمائة ألف طالب جامعيين وأساتذتهم. أفضل من لا شيء، أليس كذلك؟
هل تعرفون ماذا تعني كلمة "نيابا" (ñapa) (الحلاوة)؟، أبناء سنتياغو يعرفون ماذا تعني. عندما كان أحد يشتري شيئاً من الحانوت، كانوا يكافئونه قديماً بقطعة من حلوى جوز الهند أو شيئاً من هذا القبيل. إنها "الحلاوة". العمال الاجتماعيون يدفعون ذلك بحلاوة مما يجمعونه.
وصلوا إلى هافانا، وبدأوا فوراً بجمع ضعف ما كان يتم جمعه. وهل العاملون أصلاً في المحطات لم يكونوا يجمعوا أكثر من هذا؟ لا، اضطر الأمر لوصول العمال الاجتماعيين إلى هناك. قلت، "أتراه ممكناً الا يرتدعوا أو يتّعظوا؟"
سوف يتّعظ في نهاية المطاف أولئك الذين لا يريدون أن يفهموا، ولكن بطريقة أخرى؛ نعم، سوف يتبللون بوسخهم نفسه. لا يريدون أن يفهموا.
ماذا كان يحدث في هذه الأثناء في ماتانزاس وفي محافظة هافانا؟ لم يرتفع المردود إلا قليلاً، 12%، 15%، 20%؛ ولكنه كان على ذات الحال الذي كانت فيه بينار ديل ريو والعاصمة قبل عملية الإشراف عليهم.
في محافظة هافانا تعلّم كثيرون السرقة كالمجانين.
العمال الاجتماعيون يتواجدون اليوم في المصافي، والعمال الاجتماعيون يصعدون اليوم في صهريج سعة 20 ألف أو 30 ألف ليتر، أصبحوا يرون إلى حد ما من أين تذهب الشاحنة الصهريج وأي منها يتم حرفها عن مسارها.
ومن هنا تم الأخذ باكتشاف محطات بنزين للحساب الخاص، تغذيها محروقات سائقي الشاحنات-الصهاريج.
هناك أمر معروف وهو أن كثير من شاحنات الدولة تسير في طريق وفي آخر، وأن أصحابها يتوجهون بهذه الشاحنات إلى بيت صديق، قريب، أو لزيارة صديقته.
أذكر تلك المرة، قبل عدة سنوات من حلول الفترة الخاصة، أن شاهدت في الجادة الخامسة رافعة "فولفو"، جديدة، كان ثمنها في تلك الفترة حوالي 50 ألف أو 60 ألف دولار، تسير بسرعة. شعرت بالفضول لمعرفة المكان الذي تذهب إليه بتلك السرعة، طلبت من المرافِق: "قف، اسأله إلى أين يذهب، فليقل لك ذلك بصراحة". واعترف بأنه كان ذاهباً لرؤية صديقته برافعة "فولفو" تلك، التي كانت تسير بأقصى سرعة في الجادة الخامسة.
أمور كهذه حدثت وما تزال. وبشكل عام نحن نعرف كل شيء، وقد قال كثيرون: "الثورة لا تستطيع؛ لا، إنه أمر مستحيل؛ ليس هناك من يستطيع إصلاح هذا الوضع". ولكن، نعم، الشعب سوف يصلح ذلك، الثورة سوف تصلح ذلك، وبأي طريقة. هل هي مسألة أخلاقية فقط؟ نعم، بشكل أساسي، ولكنها بالإضافة لذلك، هي مسألة اقتصادية هامة.
إن هذا هو أحد الشعوب الأكثر تبذيراً للمحروقات في العالم. لقد تم إثبات ذلك هنا، وقد قلتموها أنتم بكل نزاهة، وهذا هو أمر هام جداً. لا أحد يعرف ما تكلفه الكهرباء، لا أحد يعرف ما يكلفه البنزين، لا أحد يعرف قيمتهما في السوق. كنت سأقول لكم بأنه لأمر مؤسف جداً أنه في الوقت الذي يمكن لطن النفط أن يصل فيه إلى 400 والبنزين إلى 500، أو 600، أو 700، ويصل في بعض الأحيان إلى 1000، وهو منتج لن ينخفض سعره، بعض المنتجات ربما ينزل ولكن ضمن ظروف عابرة، وليس لمدة طويلة، لأن هذا المنتج ينضب مادياً؛ إنه ينضب، بكل بساطة، كما سينضب الكثير من المعادن يوماً ما.
نحن نرى مناجمنا للنيكل، حيث تترك ثغرة في المكان الذي كان يوجد فيه الكثير من النيكل. وهذا ما يحدث للنفط، الآبار الكبرى قد ظهرت، وأصبح ما بقي ينضب يوماً بعد يوم. إن هذا هو موضوع أخذ ويأخذ من تفكيرنا حيزاً كبيراً.
هل تعرفون، على سبيل المثال، ما هي المسافة التي تقطعها شاحنة "زيل-130" (Zil-130) بليتر واحد من البنزين؟ 1.6 كلم؛ تلقي قصب السكر أو توزع الوجبة الإضافية لتلاميذ الإعدادية. حين سُئلت وزارة السكر كما شاحنة تزيد عندها لكي تساعد وزارة الصناعة الغذائية على توزيع الوجبة الإضافية على المدارس الإعدادي، والتي يصل عدد تلاميذها إلى 400 ألف، وهي وجبة مجانية، بالإضافة للّبن والخبر الذي يتلقونه؟ طبعاً، من بين الشاحنات الزائدة عندها أعطت لوزارة الصناعة الغذائية الشاحنات التي تعمل بالبنزين، أكثرها استهلاكاً.
إذا ما استبدلت هذه الشاحنة التي تسير مسافة 1.6 كلم بالليتر الواحد بشاحنة تكون، أولاً، بالحجم الذي يجب أن تكون عليه، ففي بعض الأحيان تحل في عملها محل شاحنة صغيرة وزن 1.2 طناً، بينما هي تزن خمسة أطنان. بدأنا نبحث ذلك في مناقشة مع شركة الصناعة الكهربائية، فقد طرحوا مشكلات شاحناتهم المخصصة لإصلاح خطوط الكهرباء، وقالوا: "علينا أن نستبدل 400 آلية سوفييتية مستهلِكة جداً للبنزين، فنحن نستهلك كذا". احتاج الأمر لكثير من الجدل، فلا تظنّنَ أن عند جميع مدراء مؤسساتنا تقاليد في الالتزام. ولا يمكنهم جميعاً أن يكونوا سعداء، أنبهكم إلى ذلك، وأنبههم هم أيضاً، لأن هذه المعركة ستكون قاسية. لم يحتجّ أحد حتى يومنا هذا، ولكن، إذا لم تخنّي الذاكرة، كان هناك حوالي 300 هيئة معها صلاحية النفقة بالعملة الصعبة وكانت تقرر بصلاحيات واسعة جداً أمر نفقات بالعملة الصعبة من أرباحها، فتشتري هذا أو ذاك، أو تطلي، أو تشتري سيارات أفضل من التي عندها. تنبّهنا إلى أنه ضمن الظروف التي تعيشها البلاد كان لا بد من تجاوز كل ذلك الوضع، وانعقد اجتماع مع المؤسسات الرئيسية وبدأ ذلك الوضع بتغيّر.
إذا كنت في حرب ولديك كثيراً من الأعيرة لا يهم إن كان إطلاق البنادق بين بين؛ وإذا كان عندك القليل من الأعيرة، وهو ما كان يحدث لنا نحن دائماً في الحرب، كان علينا أن نعرف أعيرة كل بندقية وحتى ماركة هذه الأعيرة، ولو كانت من ذات العيار، لأن بعضها كان يعمل بشكل أفضل في نوع معين من البنادق، بينما كان يتسبب نوع آخر في استعصائها؛ وفي سبيل التوفير، كنا في بعض الأحياء نمنع إطلاق النار، إلا في حال جاء العدو للاستيلاء على الخندق. على سبيل المثال، ليس هناك شيء أكثر هولاً من سلاح أوتوماتيكي وهو يطلق. هكذا كنّا نحن.
المصارف، لدينا مؤسسات مصرفية ممتازة. يتم اليوم تخصيص الموارد لجميع نفقات البلاد، وتقوم البنوك بإدارتها، تسلّمها وفقاً للبرنامج الموضوع، ولا يذهب مدير أي بنك لتناول الغداء مع ممثل شركة قويّة، ولا يدعونه أبداً إلى مطعم فاره، ولا يدعونه للذهاب إلى أوروبا والإقامة في منزل صاحب الشركة أو في فندق ترف؛ ففي نهاية المطاف كان بعض موظفينا مشترين بالملايين؛ والمشترين بالملايين من جهة، وفن الرشوة الذي يتقنه عادة رأسماليون كثيرون، أكثر دهاء من ثعبان، وفي بعض الأحيان أسوأ من الجرذ، فيقومون بالتخدير بالقدر الذي يأخذون فيه بالقضم، وهم مستعدّون أن يقتلعوا من شخص قطعة من لحمه في أوج الظلام، وكذا كانوا يأخذون بتنويم الثورة واقتلاع لحمها. ليس بقليل عدد الذين كان فسادهم واضحاً، وكان كثيرون يعرفون بالأمر أو يشكّون به، لأنهم كانوا يرون مستوى حياة هذا وأن هذا قد بدّل سيارته في بعض الأحيان لأسباب تافهة، أو قام بطلائها أو وضع لها هذا أو ذاك، لأنه قد أصبح معتدّاً بالنفس؛ لقد سمعناها عشرين مرة هنا وهناك، ويجب اتخاذ الإجراءات هنا وهناك؛ ولكن هذا الأمر لم يكن له أن يجد حلاً بسهولة.
هكذا إذاً، حرف مسار موارد في محطات البنزين. توجد هنا صلاحيات معينة للتزويد بالمحروقات، فذاك السيّد، الذي يمكنه أن يكون صديق جداً لي، يقوم باستخدام سيارته على نحو نافع جداً، وبالتالي أقوم بتسليمه كمية من المحروقات. هذه هي واحدة بين ألف طريقة، هناك عشرات الطرق لإساءة استهلاك الموارد أو حرفها، وإذا لم يكن يتم تنفيذ إجراءات الإشراف الموضوعة، أو إذا لم نكتشف الطريقة الحقيقية لوضع حد لهذا، فإن ذلك يتواصل ويتكرر.
يمكن الآن في هذا البلد توفير المزيد من الطاقة، بل وأكثر من بلدان أخرى، لأن لدى هذا البلد مليونين و400 ألف براد قديم عند المواطنين، تستهلك من الطاقة الكهربائية بين أربعة وخمسة أضعاف إضافية في الساعة، وهذا الاستهلاك هو على مدار الأربع وعشرين ساعة.
معلومة صغيرة، لكي لا تنسوا. يوجد في بينار ديل ريّو 143 ألف برّاد، منها 136 ماركة "INPUD" و"Minsk" وغيرها من الماركات السوفييتية القديمة، "Frigidaire" وماركات رأسمالية أخرى، أقدّر بأنها تستهلك حوالي 20 بالمائة –أنا أستخدم رقم آخر، ولكن سأستخدم أمامكم هذا الرقم الأكثر تحفظاً بعد – من الكهرباء التي تولّدها المعامل الكهربائية لبينار ديل ريو في ساعات الطّلب الأعلى.
كلّمتكم من قبل عن شاحنة "زيل"، ويوجد منها آلاف، آلاف كثيرة. وهناك أمور أسوأ، فهناك هيئات كثيرة توقف شاحناتها على حجارة ولم تلغيها من الخدمة، ومن ناحية أخرى اعتادت الإدارة المركزية إلى حد ما على التفاوض مع الوزارات. ليس على الإدارة المركزية للدولة أن تتفاوض مع أي وزارة، إنما عليها أن تعطي الأوامر للوزارات: "كم شاحنة لديك؟" "عندي عدد كذا". البحث العميق للمشكلات واتخاذ القرارات.
الصناعة السكرية، التي كانت تنتج في السابق ثمانية ملايين طن وبالكاد يصل إنتاجها اليوم إلى مليون ونصف المليون طن، لأن الأمر اضطر لإلغاء عملية قلب الأرض والزرع حين بلغ سعر الطن الواحد من النفط أربعين دولاراً وكان ذلك مصدر تدمير للبلاد، وخاصة حين تجتمع أعاصير تزداد تكراراً يوماً بعد يوم، أو فترات جفاف مدتها أطول، ولأن حقل القصب بالكاد يدوم أربع أو خمس سنوات، بعدما كان يدوم في السابق 15 سنة أو أكثر، وفي وقت بلغ فيه سعر رطل السكر في السوق العالمي سبعة سنتات؛ بل وأنني أذكر اليوم الذي وجّهت فيه سؤالاً حول سعر السكّر وسؤالاً آخر عن حجم الإنتاج في نهاية شهر آذار/مارس لشركة مسوِّقة للسكر ولم تكن تعرف هذه الشركة ولا حتى حجم ما يتم إنتاجه من السكر في كل من أشهر السنة، وحين سألت عن تكلفة طن السكر الواحد بالعملة الصعبة لم يعرف أحد الإجابة، ولم تأتِ هذه الإجابة إلا بعد شهر ونصف الشهر من ذلك الموعد.
احتاج الأمر، وبكل بساطة، لإغلاق مصانع سكّر وإلا كنا سننتهي إلى حفرة بارتليت. كان لدى البلاد الكثير من رجال الاقتصاد، الكثير الكثير، وأنا لا أحاول هنا انتقادهم، ولكن بذات الصراحة التي أتكلّم بها عن أخطاء الثورة أستطيع أن أسأل لماذا لم نكتشف بأن المحافظة على ذلك الإنتاج، بعدما كان قد مرّ وقت طويل على غرق الاتحاد السوفييتي، وكان سعر الطن الواحد من النفط أربعين دولاراً، لماذا لم يتم تحجيم تلك الصناعة ولماذا كان علينا أن نزرع سنوياً عشرين ألف كاباليريا، أي حوالي 270 ألف هكتار، ومن أجل ذلك علينا أن نقلب الأرض بجرارات ومحاريث ثقيلة، وزرع قصب السكر الذي يحتاج بعد ذلك لتنظيفه بآلات، ثم التسميد بمبيدات أعشاب باهظة الثمن، إلى آخره، إلى آخره، إلى آخره. يبدو أن أياً من رجال الاقتصاد الذي كانوا في البلاد قد تنبّه لذلك، فكان لا بد من توجيه الإيعاز، ما يشبه الأوامر، بكل بساطة، بوقف كل أعمال قلب الأرض تلك. إنه أشبه بالقول: "إن البلاد تتعرض للغزو"، فلا يمكنك أن تقول: "انتظر، عليّ أن أجتمع ثلاثين مرّة مع مئات الأشخاص". إنه كما لو أننا قلنا في خيرون [خليج الخنازير]: "سوف نعقد اجتماعاً ونناقش على مدى ثلاثة أيام الإجراءات التي سنتخذها ضد الغزاة". أؤكد لكم بأن الثورة قد شكلت على مدى وجودها حرباً حقيقية والعدو يهددها بشكل متواصل، والعدو مستعد للضرب والضرب في كل فرصة نتيحها له.
ما حصل في الواقع هو أنني استدعيت الوزير وقلت له: "من فضلك، كم يبلغ عدد الهكتارات التي تم قلبها عندك؟". قال: "ثمانون ألفاً". قلت له: "لا تقلب ولا هكتاراً واحداً بعد". لم يكن هذا الدور دوري، ولكن لم يكن عندي خياراً آخر، فأنت لا يمكنك أن تدعهم يغرقوا البلاد، وفي شهر نيسان/أبريل كانوا يقومون بقلب عشرين ألف كاباليريا من الأراضي.
لقد قمنا بأمور من هذا النوع، أمور تجعل الحجارة تحكي. أنتم لا تتحملون أي ذنب، ولكن، ما الذي كان يحدث لنا؟ لماذا لم نكن نرى ذلك؟ ما هي الأمور التي كنّا نسيء فعلها؟ ما الذي كان يتوجب علينا تصحيحه؟ كان الاتحاد السوفييتي قد غرق منذ زمن طويل، وأصبحنا، بين ليلة وضحاها، بلا محروقات، بلا مواد أولية، بلا مواد غذائية، بلا أدوات تنظيف، بلا شيء. ربما كان ضرورياً أن يحدث ما حدث، ربما كان ضرورياً أن نعاني ما عانينا، ونحن مستعدون، كما كنّا، للموت ألف مرة قبل أن نسلّم الوطن أو نسلّم الثورة، الثورة التي نؤمن بها.
لعلّ ذلك كان ضرورياً لأننا ارتكبنا الكثير من الأخطاء، وهي الأخطاء التي نحاول الآن تصحيحها، إذا صح القول، التي نقوم بتصحيحها.
واحدة من عمليات التصحيح الكبرى التي قام بها الحزب والحكومة كان ذلك التصحيح المتمثل بوضع حدّ لحقّ ثلاثة آلاف مواطن بإدارة عملات صعبة للبلاد، فإذا ما وقعوا في دين –كان بإمكانهم أن يقعوا في دين بحجم كذا-، لم يكن بوسع أحد أن يثق إن كان بوسعهم تسديده أم لا؛ وحين تحلّ ساعة تسديده، حيث يمكن له أن يكون استثمار غير ضروري أو أحمق أو ذاتي، كان على الدولة أن تسدده، وإذا لم تسدده الدولة تتضرر مصداقيتها بشكل كبير.
لم يعد الوضع اليوم هكذا، فأودّ أن أقول لكم أن البلاد تقوم بتسديد ما عليها حتى آخر سنت، من دون أن تتأخر ثانية واحدة، ومصداقيتها تكبر وتكبر وتكبر. لم يعد يتم كبّ المال؛ يتم كبّه ولكن ليس بحماقات هائلة كحماقة تلك الصناعة السكرية.
من شأنه أن يلفت انتباهكم على نحو أكبر قولي لكم أنه، حسب إحصاءات الممتلكات، يوجد لدى هذه الوزارة عدد من الشاحنات يزيد بما يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف شاحنة عما كان لديها حين كانت تنتج ثمانية ملايين طن من السكر. إنه لأمر قاسٍ، ولكنني أقوله وأقوله، وما أدراني كم من مرة عليّ أن أقوله فيها وعدد الانتقادات التي سأوجهها علناً، لأنني لا أخاف من تحمّل المسؤولية التي عليّ تحمّلها، فنحن ليس بإمكاننا أن نتهاون. فليهاجموني، فلينتقدوني، ـ فأنا أعرف كيف تسير عليه الأمور، أعرف ذلك تماماً. لا بد وأن هناك كثيرين متألّمين بعض الشيء: ملوك، قياصرة، أباطرة.
أجميعهم هكذا؟ لا! هل جميع وزرائنا هكذا؟ لا! إن عند بعض وزرائنا عيوباً وعيوباً كبيرة. في بعض الأحيان بدونا ضعفاء أمام موظفين يشغلون مناصب هامة، ولكن لديّ عادة قديمة، تعود إلى زمن طويل قبل اليوم: أنني أعمل عادة مع أولئك الرفاق الذين سبق لهم أن ارتكبوا أخطاء، وقد فعلت ذلك مرات كثيرة على مدى حياتي، ما دمت أرى المزايا النوعية؛ ففي كثير من الأحيان هناك مزايا نوعية وما لا يتوفّر هو التوجيه الصحيح، أو أن ما يحصل في أحيان كثيرة هو عمى البصيرة، بالرغم من كل الآليات والمؤسسات التي تتمتع بها البلاد للدفاع عن نفسها، للكفاح، للمحاربة الشريفة، من دون التمادي في استغلال السلطة. دقِّقوا جيداً: من دون التمادي في استغلال السلطة! ليس هناك ما يبرر أبداً إقدام أحدنا على محاولة التمادي في استغلال السلطة. نعم، من واجبنا أن نتمتع بالجرأة، من واجبنا أن نتمتع بشجاعة قول الحقائق، وليس جميعها، لأنك لست مجبراً على قول الحقائق كلها دفعة واحدة، فالمعارك السياسية لها تكتيكها، عبر الإعلام الملائم، تواصل السير في طريقها. لن أقوم أنا بذكر كل شيء لكم، سوف أقول لكم ما لا غنى عنه. لا يهم ما يقوله أفراد العصابات وما تقوله البرقيات الصحفية التي ترد غداً أو بعد غد، فآخر الضاحكين يضحك مقهقهاًُ.
توجد هنا بعض البرقيات الصحفية التي تذكر أموراً: أن كاسترو قد شن هجوماًُ، أن كاسترو قد أطلق العمال الاجتماعيين، أننا نقوم بالتخلي عن القفزات الاجتماعية التي تم إحرازها. القفزة الاجتماعية هي أن يباع رطل من الأرز بأربعة بيسوات، أن يسرقوا المواطن. أي متقاعد يستطيع شراؤه؟ المتقاعد، من جهة 80 بيسو، خمسة أرطال من الأرز عبر البطاقة التموينية. ليس هافانا، فهي كانت متميزة، كان يُعطى فيها للمواطن ستة أرطال، فقد تلقت هافانا رطلاً إضافياً، وكذلك الأمر بالنسبة لسنتياغو، أما بقية المحافظات فخمسة أرطال. يجب قياسها أونصة أونصة، 100 غرام، وكم هي تكبر، فماذا يحدث بالبطاقة، من عنده سكّر يستبدله بالأرز، ومن يزيد عنده شيئاً يستبدله بشيء آخر.
جميع مواطني البلاد يتلقون اليوم رطلين إضافيين من الأرز. أريد أن أرى اللحظة التي تكون فيها هذه الكمية كافية. لم تعد بعيدة، إلا إذا أردنا أن نعطيه للدجاج. حسناً، هذا هو أمر آخر. إننا نقترب من اللحظة التي يكون فيها الأرز كافياً. كما أننا نعكف على توفير الظروف اللازمة لاختفاء البطاقة التموينية من الوجود. إننا نعكف على توفير الظروف لكي يختفي من الوجود شيئاً بدا ضرورياً ولا غنى عنه في ظرف من الظروف، وأصبح اليوم يشكل عائقاً. فإذا كنت تريد أن تشتري مزيداً من الأرز تشتري مزيداً من الأرز وقدراً أقل من السكر، أو مزيداً من شيء أو من شيء آخر، وليس فقط فاصوليا سوداء هذا وفاصوليا حمراء الآخر. لا، إنما لشراء فاصوليا حمراء، سوداء، بازيلا جافة، عدس، فول، لوبيا بيضاء تكون تجيد طهيها. أنبّهكم إلى أنه سيكون عليكم أن تعيروا اهتماماً أكبر للمطبخ، بالتأكيد وفي القريب العاجل.
وهكذا كان يتحدث بعضهم عن الشوكولاته: "أؤمن بذلك حين أراه". وهكذا حدث مع طنجرة الضغط، فأصبح يوجد الآن ملايين المؤمنين. كان بعضهم يقول عن الشوكولاته: "كيف هي؟" "كم يبلغ ثمنها؟" "ثمانية بيسوات" "لكونها تباع بالحصة هي مرتفعة الثمن!" مفارقة. كل شيء يباع بالحصّة يجب أن يكون مجانياً كالكهرباء. "لكونها تباع بالحصة، كم يبلغ ثمنها؟" "آه! ثمانية بيسوات". كم سنتاً من الدولار، بعدما انخفضت قيمته؟ اثنان وثلاثون سنتاً. وماذا تحتوي؟ وزنها 200 غرام؛ وكل 11 غرام منها سبعة منها هي حليب جاف كامل، إنها تحتوي على هذا الحليب، وأولئك الذين لا يصدّقون فليسألوا، فليأخذوها إلى مختبر ويفحصوها؛ أربعة غرامات من الكاكاو، وهي ثقيلة جداً، تبلغ من الثقل ما تبلغه من السلامة، وربما كوبا اليوم هي البلد الذي يستهلك أعلى نسبة من الكاكاو في العالم بالنسبة لعدد السكان، فالطفل يستهلك الكاكاو الخاص به، ولكن الوالد أيضاً، بنفس الطريقة التي يستهلك بها الوالد البنّ الخاص بالطفل. فبما أن الطفل قد ولد فإنه مسجل في البطاقة التموينية، وعليه يجب إعطائه حصته من البن، بن بالفعل، بخمسة بيسوات. "لكونه يباع بالحصة، فهو باهظ الثمن!". أكثر ما يمكن قوله هو: إنه أقل مجانية.
الطريق نحو تحقيق ما قلته: أن يتلقى العامل قدراً أكبر، وأن يتلقى كل من يعمل قدراً أكبر، وأن يتلقى كل متقاعد قدراً أكبر؛ فالمسألة أننا نتكلم عن مزيد من المداخيل ومزيد من المنتجات.
هناك نوعان، وليسا بسيئين، بعضهم آخذ الآن باكتشاف الشوكولاتة. أنا أعرف أن الأطباء الموجودين في سلسلة جبال كشمير يشربون الشوكولاته في كل ليلة، من هذا الظرف الصغير، هذا الذي يقال بأنه باهظ الثمن لكونه يباع بالحصة، ويمكنهم أن يضيفوا له الحليب. والشوكولاته الخاصة بالطفل، يمكنهم أن يضيفوا لها المزيد، يضيفون لها ماء وحليب، وهي تحتوي على بروتينات.
أؤكد لكم أننا نأخذ بقياس كل البروتينات التي تحتوي عليها كل هذه الحبوب وكل بيضة. المواطنون في جزء كبير من البلاد يتلقون خمس بيضات، وفي هافانا ثمانية. أصبح يوجد اليوم أكثر من مائة بلدية يتلقى فيها المواطنون عشر بيضات، وكل واحدة من البيضات الجديدة طرأ عليها ارتفاع في السعر. نعم، إذا ما جمعناها: خمسة ضرب تسعة يساوي 45. إنها 45 سنتاً، بالإضافة لخمس بيضات بقيمة 15 سنتاً، المجموع 75، أي أنه بـِ 5.25 سنتاً [من الدولار] يمكن شراء 10 بيضات، وأقل المستفيدين من الزيادات، أولئك الذين يتلقون رعاية اجتماعية، ارتفعت معاشاتهم خمسين بيسو؛ أقل المستفيدين يمكنه أن يشتري خمس بيضات جديدة بقيمة 4.50 سنتاً.
ولكن جاءت بعدها الشوكولاته، وعلينا أن نخصم ثمانية بيسوات، أو القهوة، وعلينا أن نخصم خمسة، زائد ثمانية، 13؛ زائد 5.25، المجموع 18.25.
حسناً، المسألة أن هناك رطلان إضافيان من الأرز، وهذا الرطلين يكلف الواحد منهما 90 سنتاً من البيسو، أي أقل من أربعة سنتات من الدولار. نعم، إنها حصة جديدة، وعلى البلاد أن تنفق أربعين مليون دولار مقابل هذين الرطلين الإضافيّين من الأرز، ولم تتردد في إنفاقها. ومن قمت بزيادة دخله خمسين بيسو، تبدأ هذه الزيادة بالشح أكثر؛ ولكنك تفكّر منذ الآن بالزيادة التي ستدفعها للمتقاعد لكي يتمكّن من شراء ذلك وغيره من الأمور، وأن تكون الأموال جاهزة قبل توزيع هذه الحصة. ليست المسألة مسألة طبع أوراق مالية من دون أن تكون لها تغطية بالسلع أو الخدمات، ففي هذه الحالة سيأخذ أولئك الوسطاء المرموقين بقبض خمسة بيسوات مقابل الرطل الواحد من الأرز بدلاً من البيسوات الثلاثة. لا تنسوا أنهم يتمتعون ببراءة قرصنة، يستطيعون أن يقبضوا ما يريدون. فإذا خطر على بالهم يقولون، "إدفع لي ثمانية بيسوات ثمن الرطل الواحد من الفاصوليا".
أود أن أقول لكم بأن جميع الذين يتلقون 10 أونصات في البلاد، ويبلغ عددهم خمسة ملايين، أصبحوا يتلقون عشرين أونصة، وكل الذين كانوا يتلقون عشرين أونصة يتلقون الآن ثلاثين، وأولئك الذين كانوا يتلقون عشرة ويتلقون اليوم عشرين سوف يتلقون ثلاثين أونصة، أي ثلاثة أضعاف كمية الفاصوليا، أو الحبوب، أي كان اسمها، من غير أن يشمل ذلك الأرز أو الذرة. خمسة ملايين نسمة، ثلاثة أضعاف الكمية، والباقي 50% إضافية.
وهذا أيضاً كلّف بضع عشرات من ملايين الدولارات. لم أشأ أن أسألكم أنتم من أين تأتي هذه الأموال، أو كيف يمكنها أن تخرج، لأن كبار المنظّرين يقومون بمناقشة هذا الأمر: "هذا الرفع للرواتب قليل"، طبعاً، من شأن الأمر الأمثل أن يكون رفعها ثلاثة أضعاف. من أين؟ هل تريد أن تقول لي من أين يمكن المجيء بها، على من يتوجب علينا أن نسطو، أم أننا سنخدعكم بإعطائكم أكثر من هذا لكي تضحوا مخدوعين؟
هناك أسئلة يجب توجيهها للبلهاء؛ ليس كل من يبدي رأيه أبلهاً، ولكن هناك بلاهات كثيرة تعود إلى الجهل: هذا باهظ الثمن، هذا باهظ الثمن، كل شيء باهظ الثمن.
انتهى بنا الأمر لتقديم الأشياء مجاناً، البعض يقوم بشرائها، فقد كانوا ملاكين، وكانوا قد دفعوا خمسين بيسو شهرياً، ثمانين بيسو شهرياً، وعلى أساس سعر الصرف، فإنها تعني ثلاثة دولارات إذا كان قد تم إرسال هذا المال لهم من ميامي؛ كان بعضهم يبيعها، وبذلك ينتهي الأمر في نهاية السنة في أنهم بأقل من خمسمائة دولار يشترون سلعاً بقيمة 15 ألف، 20 ألف دولار.
هل يمكن للبلاد أن تحل مشكلة الإسكان عبر قيامها بتقديم الأشياء كهدية؟ ومن كان يستفيد منها، الكادح، الإنسان البسيط؟ كان هناك كثيرون من البسطاء ممن استلموا منازل كهديّة وقاموا بعد ذلك ببيعها لحديثي النعمة. كم يمكن لحديث النعمة أن يدفع ثمن المنزل؟ أهذه اشتراكية؟
يمكنها أن تكون حاجة في لحظة معينة، كما يمكنه أن يكون خطأ، إذ أن البلاد تعرضت لضربة مرهقة، وذلك حين انهارت القوة العظمى بين ليلة وضحاها وتركرنا بمفردنا، لوحدنا، وخسرنا كل أسواق السكر ولم نعد نتلقّى المواد الغذائية والمحروقات، وحتى الخشب الذي كانت تًصنع منه نعوش الموتى. وظن الجميع: "هذا الحكم سيسقط"، وما زال البلهاء جداً يظنون بأن هذا الحكم سيسقط، وأنه إذا لم يسقط الآن سيسقط لاحقاً. وكلّما زادت أحلامهم هم وكلّما زاد تفكيرهم، من واجبنا أن نفكّر نحن، ومن واجبنا الأكبر أن نخرج نحن بالاستنتاجات، لكي لا تلحق الهزيمة أبداً بهذا الشعب المجيد الذي أودع كل الثقة التي أودعها فينا (تصفيق).
لن يحلّنّ أبداً اتحاد سوفييت هنا، ولا معسكرات اشتراكية محلولة، متفككة؟ لن تجيئنّ الإمبراطورية أبداً إلى هنا لتقيم سجوناً سرّيّة لتعذيب الرجال والنساء التقدميين من بقية أنحاء القارة التي تنهض اليوم لتحقق استقلالها الثاني والنهائي.
أفضل ألف مرة عدم بقاء ولا حتى ظل ذكرى أي منّا وأي من ذرّيتنا على أن نضطر للعودة للعيش حياة تبلغ كل ما تبلغه من بؤس وإثارة للاشمئزاز.
قلت بأننا أكثر ثورية يوماً بعد يوم، وهذا ليس هباء، وإنما لأننا نعرف الإمبراطورية على نحو أفضل يوماً بعد يوم، ونعرف على نحو أفضل يوماً بعد يوم ما هم مستعدون لفعله، وكنّا من قبل حتى متشككين من بعض الأمور التي كانت تبدو مستحيلة.
كانوا قد خدعوا العالم. حين نشأت وسائل الإعلام الكبرى تملّكت من العقول وحكمت، ليس على أساس الأكاذيب فحسب، وإنما على أساس المنعكسات المشروطة: الكذب يؤثر على المعرفة؛ المنعكَس المشروط يؤثر على القدرة على التفكير. وليس الحال سواء بين أن تكون غير مطلع وأن تكون قد فقدت القدرة على التفكير، لأنهم خلقوا عندك منعكَسات: "هذا سيئ، هذا سيئ؛ الاشتراكية سيئة، الاشتراكية سيئة"، وكل الجهلاء، وكل الفقراء، وكل المستغَلّين يقولون: "الاشتراكية سيئة". "الشيوعية سيئة"، وكل الفقراء، كل المستغَلّين وكلّ الأميين يرددون: "الشيوعية سيئة".
"كوبا سيئة، كوبا سيئة"، هذا ما قالته الإمبراطورية، قالت ذلك في جنيف، وقالته في عشرين مكان ومكان، ويأتي كل المستغَلّين في العالم، كل الأميين، وكل الذين لا يتلقون عناية طبية ولا تعليم، ولا فرص العمل مؤمنة لهم، ولا يؤمَّن لهم شيء ليقولوا: "الثورة الكوبية سيئة، الثورة الكوبية سيئة". "اسمع، الثورة الكوبية فعلت كذا وكذا". "اسمع، ليس هناك من أمّي واحد". "اسمع، نسبة الوفيات بين الأطفال هي كذا". "اسمع، كل الناس يعرفون القراءة والكتابة". "اسمع، لا يمكن وجود حرّية إذا لم توجد ثقافة". "اسمع، لا يمكن وجود انتخاب".
عمّ يتكلّمون؟ ماذا يفعل الأميّ؟ كيف يمكنه أن يعرف إن كان صندوق النقد الدولي جيداً أم سيئاً وأن الفوائد هي أعلى وأن العالم آخذ بالخضوع وبالتعرض للنهب المتواصل بسبب أساليب هذا النظام؟ لا يعرف ذلك.
لا يعلّمون الجماهير القراءة والكتابة، ينفقون بليون دولار على الدعاية التجارية سنوياً؛ ولكن المشكلة ليست في إنفاقها، وإنما في أنها تُنفَق على خلق منعَكَسات مشروطة، لأن ذاك اشترى "بالموليف"، والآخر اشترى "كولغيت"، والآخر "كاندادو"، بكل بساطة لأنهم كرروه على مسمعه ألف مرة، جعلوه يترافق في ذهنه بصورة جميلة وأخذوا يزرعونها في دماغه، ينقشون دماغه. هم الذين يتكلمون كثيراً عن غسل الدماغ، إنما هم ينقشونه، يعطونه شكلاً، يجرّدون الإنسان من القدرة على التفكير؛ ومن شأن الأمر أن يكون أقل خطورة بعد لو أنهم جرّدوا أحدا خرّيج جامعة ويستطيع قراءة كتاب من هذه القدرة على التفكير.
ماذا يستطيع الأميّ أن يقرأ؟ كيف يعلم بأنهم يقومون بمداهنته؟ كيف يدري بأن أكبر كذبة في العالم هي القول بأن هذه هي ديمقراطية، النظام النتن الذي يسود هناك وفي الجزء الأكبر، وهذا لكي لا نقول في جميع البلدان التي نسخت ذلك النظام تقريباً؟ إنه مريع الضرر الذي يقومون بإنزاله. وكل واحد يأخذ بكسب الوعي، ويكسب الوعي يوماً بعد يوم، يوماً بعد يوم؛ ويوماً بعد يوم يحسّ بمزيد من الاحتقار، مزيد من الاشمئزاز، مزيد من الكراهية، مزيد من الإدانة، مزيد من الرغبة في النضال. وهذا هو ما يجعل أي كان أن يصبح مع مرور الوقت وفي أحيان كثيرة أكثر ثورية مما كان عليه حين كان يجهل الكثير من هذه الأمور، ولم يكن يعرف إلا عناصر من الظلم واللامساواة.
في اللحظة التي أقول لكم فيها ذلك لا أقوم بالتنظير، مع أنه لا بد من التنظير؛ إننا نتحرك، إننا نسير نحو تغيير شامل لمجتمعنا. لا بد من العودة إلى التغيير، لأننا عشنا أوقاتاً صعبة للغاية، نشأ هذا التفاوت، نشأت هذه المظالم، وسوف نقوم بتغيير ذلك من دون ارتكاب الحد الأدنى من الظلم، من دون تجريد أحد من بيسو واحد. لا، لن نجرد أحداً من بيسو واحد، ولكن الثقة التي يودعها المواطنون في مصرف لها قيمة أكبر من أي شيء آخر. وبما أن الثورة تقوم بخلق ثروات، وبما أن الثورة سوف تخلق كميات كبيرة من الثروات التي لن تأتي من قصب السكر ولا من شيء آخر، وإنما ستأتي بشكل أساسي من هذا الرأسمال، ومن التجربة أيضاً، لأن معرفة المرء لما عليه أن يفعل هو أمر هام جداً.
إذا ما روى أحد عليكم قصة كل محطات البنزين في العاصمة سوف تندهشون؛ فهناك عدد من المحطات يبلغ ضعفي العدد اللازم، إنها حالة من الفوضى. فكل وزارة خطر على بالها أن تفتح محطات وفتحت محطات لها، وتوزّع هنا وهناك. وفي السلطات الشعبية الكارثة هي عامة، حالة الفوضى؛ وبالإضافة لذلك، كل الشاحنات الأكثر قدماً، أكثرها استهلاكاً للبنزين، إلى آخره، تم إعطائها للسلطة الشعبية. في الوقت الذي بدا فيه بأنه يجري عقلنة استخدام الشاحنات، ما كان يجري هو رهن البلاد إلى أبد الآبدين.
هل يمكن للسلوك عندما يكون سعر المحروقات دولارين أن يكون نفسه حين يكون سعره عشرة أو عشرين، أو حين يكون أربعين أو ستين دولاراً؟ أحد أسوأ الأمور التي حدثت لنا هو هذا بالذات، الإيمان بمخططي النظام الكهربائي. كان المرء يطرح على نفسه سؤالاً وآخر وآخر، والحقيقة أنه اكتشف بأن المشكلة الأساسية تكمن في أنه كان يتم تطبيق مفهوم يتماشى مع الفترة التي كان سعر المحروقات فيها دولارين، والسياسة في مجال إنتاج السكر كانت تتماشى أيضاً مع الفترة التي كانت كلفتها تبلغ دولارين.
سعر النفط اليوم لا يخضع لأي قانون عرض وطلب؛ إنما يخضع هذا السعر لعوامل أخرى، لندرته، للتبذير المذهل من قبل البلدان الغنية، وليس هو بسعر له علاقة بأي قانون اقتصادي كان. إنها قلة هذا المنتج مقابل الطلب المتزايد وما فوق العادي عليه.
صباح هذا اليوم بالذات وصلني هذا النبأ: سيرتفع الطلب على النفط في العام المقبل بمقدار مليوني برميل، يحتاج الأمر في العام المقبل لأكثر من أربعة وثمانين مليون برميل في اليوم؛ والولايات المتحدة، وهي الأراضي الرئيسية للإمبراطورية، تستهلك في كل يوم ثمانية ملايين برميل من المحروقات. هذه هي إحدى النقاط الرئيسية.
إننا ندعو كل أبناء الشعب إلى التعاون في معركة كبرى، ليست هي فقط معركة المحروقات، معركة الكهرباء، إنها معركة محاربة كل أنواع السرقة، من أي نوع كانت، وفي أي مكان كانت. أكرر: محاربة كل أنواع السرقة، من أي نوع كانت، وفي أي مكان كانت.
كم تبلغ قيمة مجموع الطاقة التي تستهلكها البلاد، بما هو عليه هذا النفط من سعر؟ حوالي 3000 مليون دولار.
لن يكون التوفير طبعاً المصدر الوحيد لزيادة المدخول، لن يكون الوحيد، وإنما ستكون هناك عدة مصادر، سوف أذكر عددا منها، أهمّها. إنني على ثقة كاملة تقريباً –ويمكن للنتيجة النهائية أن تكون أكثر أو أقل بقليل؛ أنا لا أحب أن أقول الكلمة الأخير، فأنا محافظ دائماً في الحساب- بأنه، وعلى ضوء المعلومات المتوفرة لدينا اليوم، يمكن للبلاد أن توفّر خلال مدة قصيرة من الزمن ثلثي حجم الطاقة التي نقوم باستهلاكها مجتمعة: كهرباء، بنزين، مازوت، فيول-أويل وغيرها؛ بسعر كالسعر الحالي ويمكنه أن ينخفض قليلاً أو أن يرتفع أكثر بكثير. من شأن ذلك أن يعني أكثر من 1500 مليون دولار. ويمكنكم أن تتساءلوا: وماذا تفعل البلاد اليوم بهذه الـ 1500 مليون دولار؟ وأنا أجيبكم: جزء منه تتم سرقته، وجزء آخر يتم تبذيره والجزء الثالث يتم كبّه.
بما أننا في أوج المسيرة، في أوج الهجمة، وفي أوج النشاط، ليس بوسعي أن أعرض جميع المعطيات؛ ولكنني أعتقد بأن عمل هؤلاء الشبان الاجتماعيين من واجبه أن يعود على البلاد، خلال عشر سنوات، بحوالي عشرين ألف مليون دولار عبر توفير الطاقة. هل سمعتم؟ أنتم تعرفون ماذا يعني مليون، أليس كذلك؟ ومائة مليون، وألف مليون بالعملة القابلة للصرف.
كارلوس، أنت أعطيتني ورقة:
"نفقات التعليم، المجموع: 4117 مليون بيسو؛ نفقات التعليم العالي، 886 مليون.
أوردت هذه المعلومات وزارة الاقتصاد والتخطيط، والتي بحثوها هم في الوزارة مع وزارة المال والأسعار في السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2005".
حسناً، 886 مليون. 700 مليون دولار تعني 35.4 مليون دولار. وأعود وأكرر: جزء صغير مما تتم سرقته أو حرف مساره من المحروقات، أقل من عشرين بالمائة. هذا هو ما تكلّفه الجامعات، حسب هذه المعلومة.
إذا كنت أتكلم عن ألف مليون دولار من التوفير إنما أنا أتكلم عن 25 ألف مليون بيسو. جميع الرواتب التي يتم دفعها في البلاد، بسعر الصرف الدولي، الذي هو بالنسبة لكوبا سعر بالغ التعسف، فهي تعني حوالي 14 ألف مليون بيسو، التي لها في بلدنا قيمة فعلاً، لها قدرة شرائية فعلية أعلى بكثير. بالإضافة لذلك تم خفض قيمته ويمكن خفضها أكثر بعد.
كلّ كلمة تُلفَظ يجب التفكير بها. ليست المسألة أنني أقوم بالارتجال، فقد أمعنت كثيراً التفكير بكل هذه المعطيات وهي موجودة في رأسي، وأقيس هنا، وأقيس هناك: يمكنني قول هذا، أما ذلك فلا، لأن هناك عدوّ يحاول إفشال كل شيء وخلط الأمور، كأولئك الذين يقولون بأننا نسيء لحرية التجارة المقدّسة. ولا يقولون أموراً كثيرة، أحدها: "ما الذي يحققونه بواسطة دولار واحد يرسله لهم أحد أولئك الذي ربما أصبح مهنياً؟ لم يدفع سنتاً واحداً، وأنتم تعرفون ذلك. فمن هنا لم يذهب أميّون إلى الولايات المتحدة منذ انتصار الثورة.
ما كان قد تبقى ممن وصلوا إلى الصف السادس، السابع، وأصحاب المعارف، والذين هم أبناء تلك القطاعات الذين درسوا في الجامعة، وهم أول الذين رحلوا، كانوا ينحدرون من أغنى القطاعات؛ وعلى مدى أكثر من أربعين سنة قامت الإمبراطورية بسرقة عشرات الآلاف من المهنيين الجامعيين ومئات الآلاف من الأشخاص أصحاب المهارات، والذين تحاول منعهم بأي ثمن من إرسال تحويلات مالية إلى كوبا.
يا لها من مرارة شعرنا بها ذلك اليوم الذي فُتحت فيه محلات البيع بالعملة الصعبة، من أجل جمع قليل من تلك الأموال التي يرسلونها لكي ينفقوها في تلك المحلات، التي كانت أسعارها باهظة، من أجل جمع جزء من ذلك المال والتمكّن من إعادة توزيعه على الآخرين الذين لا يتلقّون شيئاً، وذلك في لحظة كانت البلاد تعيش فيها ظروفاً بالغة الصعوبة.
واليوم، ماذا يستطيعون أن يفعلوا بدولار واحد؟ يرسلونه إلى هنا... لا أدري إن كان أحد يرسل لك دولاراً ما (يوجّه كلامه لأحد ما). أنا لدي أقارب يتلقّون من أحد ما من هنا. أنا ليس لي أي علاقة بهذا الأمر.
سألنا في أحد الأيام ووجدنا أن هناك محافظات يتلقى 30 بالمائة أو أربعون بالمائة من سكانها شيئاً، القليل؛ ولكنها صفقة جيدة إرسال دولار واحد، جيدة جداً! فبإمكانهم أن يحكموا علينا تماماً بالإفلاس عبر إرسالهم للدولار بسبب القيمة الشرائية الهائلة التي كانت هذه الدولارات تتمتع بها في بلد محاصَر، منتجات توزَّع بالحصة وتحظى بدعم هائل من الدولة وخدمات مجانية أو هي على نحو ما فوق العادي من البخس.
على سبيل المثال، ما دمنا في الحديث عن الكهرباء. هل تعرفون كم تتكلف البلاد اليوم بالعملة الصعبة القابلة للصرف لإنتاج كيلواط واحد عبر هذا النظام الذي يعاني قدراً كبيراً من المشكلات، حيث هو معمل "غيتيراس" ومعمل "فيلتون" وغيرها، التي تتسبب بقطع التيار الكهربائي وغيره من المشكلات الكثيرة؟ هل تعرفون كم تتكلف البلاد اليوم بالعملة الصعبة القابلة للصرف؟ حوالي 15 سنتاً من الدولار الكيلواط الواحد، ولكن إذا تلقيت أنت –هذا الرفيق، وهو نجيب بدون شك، تكلّم جيد جداً- دولاراً واحداً، على سبيل المثال، ماذا تستطيع أن تفعل به؟ لقد اعترفت أنت بأن قيمة الكهرباء بخسة جداً، إنها مجانية؛ إذا ما قدمناها هدية للمحال للمعاش، للعامل، إنها هديّة، ولكننا نهديها له؛ ولكننا نقوم بإهدائها أيضاً للعامل لحسابه الخاص، ذلك الذي قبض 1000 بيسو لنقل راكب من هنا إلى غوانتانامو، وقبض ضعفي الراتب الشهري لطبيب من أجل نقله من هافانا إلى لاس توناس، باستخدامه محروقات مسروقة عبر رشوة بائعها في محطة البنزين.
أنا لا أعادي أحداً، ولكن لا أعادي الحقيقة أيضاً. أنا لست على التزام تجاه أي كذبة، من أراد أن يأخذ على خاطره، يؤسفني ذلك، ولكنني أنبهه سلفاً بأنه سيخسر المعركة، ولن يكون هذا عملاً ظالماً ولا مستغِلاًّ للسلطة. إننا نقوم بإهداء الكهرباء لذلك الشخص الذي باع رطل الفاصوليا بثمانية بيسوات. ومن فضلكم، لا تكفوا عن بيعها، فلا تقدمنّ الآن على القيام بقاذورة عدم بيعها وتحميلي أنا المسؤولية. بيعوها، ونحن لن نمنعكم من ذلك، ما أودّ معرفته هو ما ستفعلونه حين يتوفر المزيد من الفاصوليا. وفي هذه اللحظة نفسها لا أدري إن كانوا سيخفضون السعر أم لا، ولكن نصف المواطنين رأوا بأن حصتهم قد تضاعفت ثلاث مرات، والنصف الآخر رأى بأن حصته قد تضاعفت بنسبة 50 بالمائة. أتصوّر بأنه سيكون عليهم أن يخفّضوا السعر بعض الشيء. وربما، في أي لحظة، باستخدام بعض المال، الطاقة التي نشرع بتوفيرها، نوفّر عشر أونصات أخرى وتأتي اللحظة، بعد ضمان نزاهة القائمين على التوزيع وعدم ضياع حبة فاصوليا واحدة ويُعاد كل ما لا يتم بيعه، لا تعود هناك أي طريقة لاختلاسها، ولا دافعاً لاختلاسها، ولا ظروفاً تسمح باختلاسها، التي ينتهي فيها المضارِب إلى عدم بيع شيء أو يكون عليه أن يتناولها كلها.
الفلاح المنتِج يستهلك حاجته ويبيع الفائض. المضارِب يسرق ولا ينتج شيئاً. إحدى البرقيات الصحفية لوكالة "رويترز" صوّرت الحكومة بأنها تضرب "القفزات التقدمية" التي تعود إلى الظروف التي حلّت مع الفترة الخاصة. التقدمي هو كل هذا الذي أكلّمكم عنه.
هم لا يقولون بأن ابن العصابة ذاك، أو ذلك، أياً كان، فربما لم يكن فرداً في عصابة، ذلك المحظوط يرسل لك دولاراً وأنت تنفق القليل جداً على الكهرباء، تستهلك أقل من 100 كيلواط، تنفق 9 بيسو كوبي مقابل 100 كيلواط من الكهرباء، قسِّم 24 على 9 (يجري حسابات).
ما معك هو 2400 سنتاً، ودفعت مقابل المائة كيلواط 900 سنتاً، لم تصل ولا حتى إلى نصف الدولار، يزيد معك 1500 سنتاً، ولكنك لم تنفق إلا بدل 100 كيلواط؛ أنت فتى مدّخر جداً، أنت تطفئ الأنوار غير الضرورية، ليس لديك لمبات متوهّجة، كل اللمبات التي عندك هي من البيضاء، برّادك يستهلك أقل من أربعين واط في الساعة، وليس عندك برّاد قديم ورثته عن جدّتك، أنت جيّد جداً (ضحك).
والآن، ربما تكون استهلكت 150 كيلواط، وهذا سوف يكلّفك أكثر بعض الشيء لأن الخمسين كيلواط الإضافية تكلف عشرين سنتاً الكيلواط الواحد بدلاً من 9، إنها عشرة بيسوات؛ إذن، أنت الذي دفعت بدل الخمسين كيلواط هذه ثمناً أغلى بعض الشيء، أنفقت 19 بيسو. ولكن، دقِّق جيداً، لم تنفق بعد دولاراً واحداً، فأنت لا تعيش في فلوريدا، أنت تعيش في كوبا. ابن فلوريدا هو بخيل، قليل حياء، يدفع بدل الكهرباء هناك على أساس 15 سنتاً من الدولار للكيلواط الواحد، ولكنه يرسل لك دولاراً واحداً لكي تتمكن أنت بما يقل عن دولار واحد من دفع ثمن 150 كيلواط؛ ولكن، في نهاية المطاف، بالرغم من ذلك أنت معتدل، لديك في المنزل الكثير من الأدوات الكهربائية، بالإضافة للقديم منها، ربما كان مكيِّفاً أو غيره من الأمور، وتستهلك 300 كيلواط. تجري حساباتك وتقول، المائة كيلواط الأولى 9 بيسو؛ المائتا كيلواط الثانية 40 بيسو، اجمع الاثنين وتكون النتيجة 49. مجموع ما أنفقته 1.9 دولار مقابل 300 كيلواط من الكهرباء؛ أي بسعر 0.63 سنتاً من الدولار مقابل الكيلواط الكوبي الواحد من الكهرباء. يا لها من روعة!
كم ينفق شعب كوبا بسبب هذا الدولار الذي أرسلوه لك من هناك؟ فهذا الدولار ليس بدولار أو أو بيسو كسبته أنت بعملك، أو كسبه ذلك الوسيط ببيعه لرطل الفاصوليا بثمانية بيسوات؛ إنما أرسلوه لك من هناك؛ أحدٌ ما غادر إلى هناك بعافيته، وكل ما درسه كان مجاناً منذ أن ولد، وليس مريضاً، فهم المواطنين الأكثر عافية بين كل الذين يصلون إلى الولايات المتحدة، يتمتعون "بقانون ضبط"، وبالإضافة لذلك ممنوع عليهم إرسال التحويلات المالية.
حسناً، مقابل أقل من دولارين أنفقت البلاد 44 دولاراً من أجل دعم هذا الدولار الذي أرسلوه من الولايات المتحدة. إن هذا البلد هو بلد نبيل، يدعم دولارات أولئك الموجودين هناك الذين، بدل أن يساعدوك أنت بشكل نبيل، يقولون لك: "سوف أرسل لك دولارين للكهرباء، ولكن لا تستهلك الكثير من الكهرباء، من فضلك، وفِّر، أطفئ الأنوار غير الضرورية. بالإضافة لذلك سأرسل لك برّاداً، أو سأعطيك المال لكي تشتريه من الـ ‘shopping‘". ثم يواصل مرسِل الدولارات الكريم: "لا تشغل بالك، أنا سأرسل لك كل ما تحتاج، فأنا طيب، أنا نبيل، أنا سأذهب إلى الجنة، أنا أؤمّن لك الثلاثمائة كيلواط التي تنفقها أنت من هذه الدولة الاشتراكية الغبية التي تقول بأنها ثورية وتقول بأنها ستدافع عن الثورة حتى الموت". ربما يكون هناك مواطن يعلم بأننا طيبون، ولكن يمكنه أن يعتقد وبكل حق بأننا أغبياء؛ بل ومعه جزء من الحق في ذلك، حذارِ!
والآن، لكي أجمع 45 دولاراً علي أن أجمع 4500 سنت. علي أن آخذها منكم. لكم شخص تتسع هذه القاعة؟ (يقولون له لـِ 405). أربعمائة وخمسة؟ إذن، قبل أن تغادروا جميعاً، من فضلكم، دعوا 11 سنتاً، فهذا تدفعونه أنتم، هذه الأموال التي تدفعها الدولة هي أموالكم، أي شعب كوبا. فليدع كل منكم 11 سنتاً من أجل دعم استهلاكه من الكهرباء لمدة شهر. لا تنسوا! سوف نضع أحداً هناك ليقوم بمراقبتكم وتسجيل أسماءكم أيضاً (ضحك) أحقيقة هذه أم لا؟
ولكن ما دامت تُعطى له حصة من الأرز، والأرطال الخمسة الأولى من هذا الأرز، كم تكلّفه؟ حسناً، بواسطة دولار واحد، كم يستطيع أن يشتري من الأرز، بالرغم من الخصم على الصرف، بالرغم مما قمنا به من رفع لقيمة البيسو؟ يشتري مائة رطل من الأرز، ليس في يوم واحد كما يظن بعض الأغبياء، إذا ما خبأه لهذا الشهر، والشهر التالي وباقي الأشهر.
طبعاً أنت لم تنفق سنتاً واحداً مما أرسلوه لك في شراء أدوية، فالأدوية تحظى بدعم الدولة، إذا ما اشتريتها من الصيدلية، هذا الذي لم يسرقوه ولم يبيعونه خارجها، تكون قد أنفقت 10 بالمائة مما يكلّفه هذا الدواء بالعملة الصعبة. إذا ما ذهبت إلى المستشفى وربما أجروا لك عملية حتى في القلب، في الكاحل، يمكن لعمليتك هذه أن تكلفك في الولايات المتحدة ألف، ألفين، عشرة آلاف؛ فإذا ما أصبت بجلطة ووضعوا لك صماماً، يمكن أن تصل الكلفة إلى ما وصلت إليه كلفة علاج موظف لنا في مكتب رعاية المصالح، 80 ألف دولار. أنت لم يمتنعوا أبداً عن معالجتك، يمكن أن يكون هناك سوء معاملة في مستشفىً ما، ولكن هل ذهبت يوماً إلى مستشفى ولم يقدموا لك العناية الطبية؟ طبعاً، لم يكن نظامنا منظمً بالطريقة التي هو آخذ باكتسابها، والمعدات التي بدأ يتمتع بها وأصبحت متوفرة في معظم المراكز، وهي معدات ذات جودة عالية وبقياس ستاندر، وبالتالي إمكانية صيانتها، أو جهاز تصوير إشعاعي طبي عبر الكمبيوتر متعدد الجوانب، 64 جانب، من أفضلها في العالم، والتي بدأت بالوصول، حيث تم شراؤها، تم دفع ثمنها. لاحِظوا. بماذا؟ بالمدّخرات وبمداخيل البلاد التي بدأت تنمو. لا يكلفك هذا شيئاً.
أنت تتخرج منذ أن تدخل مرحلة الروضة وحتى استلامك لشهادة الدكتوراه بالعلوم الزراعية، العلوم الفيزيائية، العلوم الطبية، ولم يكلفك هذا سنتاً واحداً. تتلقى شقة، إذا حالفك الحظ، مع أن الاحتمال الأكبر ألا يحالفك أي حظ من هذا النوع –حسناً، ليت أن والدك يكون قد تلقاها لأنه كان عضواً في فرقة بناء-، ولكن أنت لا تدفع بدل سكن، أنت لا تدفع ضرائب. ربما كنت أنت أكثر يقظة وقلت: "سوف أؤجره لبعض الزوّار، وبالعملة القابلة للصرف. حسناً، يقبضون مني ثلاثين سنتاً مقابل كل دولار من المداخيل؛ حسناً، لقد أهدوني هذا المنزل، كلفني 500 دولار، وأنا أقبض 800 في الشهر الواحد، فأعطي 240 للدولة، بعض الدولارات القليلة، وأكسب 500؛ 5 ضرب 2 يساوي 10، 12500 بيسو. بفضل هذه الحقوق المقدّسة التي تمنحها حرية التجارة تستطيع أن تذهب لدفع ثلاثة بيسوات مقابل الرطل الواحد من الأرز في السوق الحر، أنت تستطيع أن تذهب إلى عامل في محطة البنزين وتقول له: "لدي أنا سيارة، اشتريتها من فلان، دفعت له ثمنها بالعملة الصعبة أو بالبيسوات القابلة للصرف، ولدي من يؤمن لي البنزين، سوف أسير مسافة 300 كيلومتر، ولدي ثلاث صديقات"، وهذه السيارة تكون مغرية مع وجود المشكلات التي يعانيها مجال النقل. ومن هي الفتاة التي لا أستطيع أن أغزو قلبها بهذه السيارة؟ (ضحك).
إذا أردتم، أيها الطلاب الأعزاء، أستطيع أن أضيف لكم بأن الذين يستهلكون 300 كيلواط، إنما هم يستهلكون 40 بالمائة من كهرباء المنازل التي تنتجها البلاد؛ أربعون بالمائة من هذه الكمية يمكنها أن تعني –إذا ما حسبنا بشكل متكتم ومحافظ- 400 مليون دولار تسلّمها الدولة لكل أولئك الأكثر استهلاكاً. ومن هم الأكثر استهلاكاً؟ قم بزيارة حديث نعمة واسأل كم أداة منزلية كهربائية يملك.
أذكر أنه أثناء بحثنا لقضية الاستهلاك الكهربائي والسعر اكتشفنا بأن هناك مطعم خاص يستهلك 11 ألف كيلواط وكانت هذه الدولة الغبية تدعم صاحب ذلك المطعم، الذي كان البرجوازيون يحبّون جداً حمل زوّارهم إلى هناك لكي يعرّفوهم بطعم اللوبستر وجراد البحر، كمعجزة للمؤسسة الخاصة، وكل هذا قد سرقه أحد ما من باتابانوه؛ أربعة أو خمسة كراسي. وطبعاً، هذه الدولة التوتاليتارية، الظالمة، هي عدوة التقدم، لأنها عدوة السرقة. إذن، كانت الدولة تدعم المطعم الخاص بأكثر من ألف دولار شهرياً؛ وقد عرفْت ذلك لأنني سألت كم يستهلك، كم تبلغ قيمة استهلاكه، وكان هو يدفع بدل الكهرباء بهذا السعر، 11 ألف كيلواط؛ أظن أنه بعد تجاوزه للثلاثمائة كيلواط كان يدفع 30 سنتاً من البيسو مقابل كل كيلواط. ألا تعلم ذلك؟ لا، لا يعلم أحد منكم شيئاً (يقولون له شيئاً). لا، لا تخترع الآن، فقد استفسرت عن كل ذلك وفي كثير من الأحيان كانوا يضلّلوني. 30 سنتاً، 11 ألف كيلواط، كان يدفع ثلاثة آلاف بيسو. أنظروا كم كان يدفع، كان يُثري الدولة، لأنه كان يدفع 3000 بيسو كوبي، 120 دولار؛ ولكن استهلاكه كان يكلّف الدولة، في تلك المناسبة أجريت الحسابات على أساس 10 سنتات من الدولار للكيلواط الواحد، واليوم تبلغ قيمة الـ 11000 كيلواط، على أساس 15 سنتاً، مما يجبر على القيام بعملية جمع إضافية، لا أعرف كيف هو عليه حال أرصدتكم، ولكن هذا المطعم الخاص يجب دعمه، وبما أنه يكلّف في الشهر 1250 دولار وأنتم عددكم 400، حين تغادروا لا تدعوا 20 سنتاً فقط، من فضلكم، وإنما دعوا ثلاثة دولارات تقريباً، من أجل تسديد بدل استهلاك شهر واحد، وهكذا عليكم أن تجروا الحسابات جيداً، لأن على أحد ما أن يدعم ذلك المطعم الخاص. هذا هو حرية تجارة، هذا هو تقدّم، هذا هو تطور، هذا هو قفز إلى الأمام.
سوف نعلمهم نحن ما هو التقدم، ما هو التطور، ما هي العدالة، ما هو وضع حد للسرقة. وأنبه إلى أن ذلك بالدعم الحازم من قبل الشعب. نحن نعرف ما نفعل، إنه في الرياضيات وفي الأرقام. نحن نعرف قيمة كل واحد من الأشياء التي سنوفّرها. لا أريد أن أتكلّم عمّا نقوم بشرائه الآن، ولا أريد أن أذكر أموراً أخرى كثيرة، آلاف الملايين، بغض النظر أن قطع التيار الكهربائي سينتهي، صدّقوني بأنه سينتهي، يمكنكم أن تكونوا على ثقة بذلك.
لقد أصبح لدينا في البلاد نحو مليونين ونصف المليون طنجرة ضغط كهربائية يمكن تعييرها، وليس فقط طناجر ضغط الأرز؛ إنها موجودة، ولكن سيكون لدينا معدّات توفر أكثر من ثمانين بالمائة من الطاقة التي تستهلكونها أنتم لغلي ليتر من الماء.
إنني متأكد أن بوسعي أن أوجه سؤالاً وأنتم ستجيبون عليه. فليرفعوا أيديهم كل أولئك الذين لا يستخدمون ماءً دافئاً للاستحمام في شهر آب/أغسطس. نعم، ولكن بكل صدق. الحذر، لا تخطئوا.
(ترفع شابة يدها)
حسناً، ألم تستخدمي أنتِ أبداً ماءً دافئاً؟ (تجيبه بالنفي). وفي الشتاء؟ (تجيب بالنفي). أهنِّئك. إنك تشكلين جزءاً من حوالي 10 بالمائة من المواطنين.
وأنتَ نعم، في الشتاء؟ (يرد شاب بالإيجاب). إنك رجل جادّ (ضحك) كم أنا سألت أشخاصاً آخرين، ليس كما هو الحال هنا، سألت الطلاب، ورفيقات عاملات، وطلبت منهم أن يرفع أيديهم الذين لا يستخدمونها؟ هل تعرفون متى؟ يوم عيد ميلادي، 13 آب/أغسطس، سألت عشر منهنّ إذا كان بينهنّ من لا تسخّن ماءً للاستحمام، ولم تستطع أي من العشر أن ترفع يدها. وهذا من أجل الاستحمام، وهناك أيضاً من يغلي الماء من أجل تنظيفها، وهناك من يسخنها للطفل، في الصيف. في أحد أيام البرد تلك، أريد أن أرى من منكم لا يستحم بماء دافئة (ضحك).
وهل تعرفون ما يفعله طلاب السكن الداخلي بالعلب لتسخين المياه؟ هل تعرفون ذلك؟ (هتافات) آه! ولمَ لا تستفسرون عما يستهلكه ذلك من كهرباء؟ أستطيع أن أقول هذا لكم، بوسعي أن أقول لك بأن هناك طرق لتسخين المياه تعني استهلاكاً يصل إلى أربعين ضعفاً إضافياً من الطاقة، أربعين ضعفاً!
قولوا لي، بصدق، ألم يستخدم أي منكم أبداً في منزله التيار الكهربائي لسخانة يدوية حين نفد عنده الغاز؟ أنا لا أتكلم عن الذين يتلقون الغاز عبر التمديدات، فهذا هو الأوفر، لا ينبغي لمس هذا الغاز. من بين الذين يستخدمون سخانة غاز سائل أو كاز، ألم يستخدم أي منكم أبداً السخانة البدائية لطهي شيء؟ فليرفع أيديهم الذين لم يستخدموها أبداً.
دعني أرى، مَن هنا؟ ذلك الذي رفعها. دعني أرى، حققوا مع ذلك السيد، ربما أنا لا أراه جيداً، دعني أرى.
بكل جديّة، ليرفع يده من لم يستخدمها أبداً. واحدة. قفي، أيتها الفتاة. تعالي إلى هنا، من فضلك. نعم، أنتِ، التي رفعت يدها، قفي. تعالي، من فضلك. اسمعي، أجيبيني على سؤال: أنت لا تقولين شيئاً بعيداً عن الحقيقة؟ (تجيبه بالنفي) ألم تستخدمي ذلك أبداً؟ أين تعيشين؟ (تقول أنه في الريف، في سانتا ماريّا) هل يوجد كهرباء. (تردّ بالإيجاب).
أردت أن أرى المواطنة المثلى، التي لم تستخدم أبداً طنجرة كهربائية بدائية.
قولي لي شيئاً، هل شعرت يوماً بالحر هناك؟ قولي لي شيئاً آخر. من المؤكد أنه يوجد هناك بعوض، صحيح؟ أي نوع من المراوح عندك؟ ما هو محرك مروحتك، "أيوريكا"؟ (ضحك) (ترد بالنفي، وتقوله بأنها "سانيو" ذات محرك كهربائي جيد).
أنت ابنة مزارعين، أليس كذلك (تقول أنه نعم)
ولكنك لا تبيعين شيئاً في ذلك السوق (ضحك). إنها نزيهة، يتوفر لديها قدر من الموارد أكبر بقليل.
أليس عندك أي لمبة متوهجة؟ (ترد بالإيجاب)
كم عددها؟ وما هو حجمها؟ كم واط؟ (تقول بأن لديها اثنتين بقوة 60 واط)
هل تجيدين الرؤيا بهما؟ (ترد بالإيجاب)
كم ساعة في تبقى هاتان اللمبتان مضاءتين؟ (تقول أنه لبضع ساعات)
خمس، ست؟ (توضّح أن هناك واحدة تبقى مضاءة طيلة الليل).
واحدة طيلة الليل، مجموع الساعات. طبعاً، لكي لا يكون المكان مظلماً، 12 ساعة، 10؟ (تقول 12 ساعة)
اثنتا عشر ساعة. رائع!
واللمبة الأخرى كم ساعة؟ (تقول بأنها تضاء بين السادسة عصراً وما بعد العاشرة ليلاً بقليل).
حتى ما بعد العاشرة بقليل، سوف نحسب عدد الساعات. اثنتا عشر وأربع، 16 ساعة؛ ضرب 60، إنها 960 واط. بدلاً من استهلاك 960 واط، سوف تتلقين لمبتي نور أبيض تستهلك الواحدة منهما 7 واط إذا ما أضيئت 12 و4 ساعات؛ 16 ضرب 7 يساوي 112 واط وتعطي مزيداً من الضوء.
هل تريدين تقديم هدية للبلاد؟ هل تريدين؟ إنني متأكد بأنه نعم. هل تعيشين هناك؟ لم أشأ أن أسأل ذلك، ولكن المشكلة أصبحت محلولة. سوف أقول لك ما ستقدمين للبلاد من هدية في القريب العاجل، اعتباراً من يوم غد إذا أردتِ.
إنريكي، أرسل لهم لمبتين بقوة 7 واط، إذا أردت 15 أو 20 شمعة، سترون أكثر مما ترون بنور اللمبة المتوهجة وسيقل عدد اللصوص الذين يقتربون من المكان. استهلاك هاتين اللمبتين بقوة 7 واط، لدي هنا الحساب الذي أجريته، يبلغ 112 واط، إذا ما طرحناه من الـ 960 التي تستهلكهما اليوم اللمبتين المتهّجتين: 960-112 يساوي 858 واط، ونضربها بـ 365 عدد أيام السنة، إذا لم تكن كبيسة، يصل إلى 313 واط، إنها 313.17 كيلواط، ونضربها بـ 15 سنتاً، كلفة إنتاجها بالعملة الصعبة، فتساوي 46 دولاراً و97 سنتاً.
شكراً جزيلاً سلفاً، سوف تهدين البلاد –انتظري، لا تذهبي-، من الدفع الذي ستقومين به الآن، ذلك أنك ستهدين لكوبا 12.7 سنتاً في اليوم، ستهدينها خلال مائة يوم 12.7 دولاراً، وفي العام المقبل سوف تهدينا جميعاً 46.45 دولار، من أجل شراء قدراً أكبر بقليل من الفاصوليا أو أي شيء آخر –بالضبط، سأقول لك، وليست هذه بضريبة، وسوف ترين بمزيد من النور-، سوف تهدينا جميعاً، لمجرد تغيير اللمبتين، 46.45 دولاراً؛ لن نقبض منك شيئاً، لا منك ولا من غيرك مقابل اللمبتين، وتدوم خمسة أضعاف ما تدومه اللمبات المتوهّجة وهي أكثر برودة، أي سيقل استخدامك لمروحة الـ "سانيو" التي لديك.
إن الأمر كذلك، لاحِظوا المثال. تصوّروا أن يكونوا، بدلاً من لمبتين، 15 مليوناً، وليس فقط الموجودة في منازل المواطنين، الذين لديهم عدد من اللمبات أكبر من التقديرات، وإنما كذلك اللمبات الموجودة في المدارس، في المخازن، في محلات البيع من كل نوع، 15 مليوناً. طبعاً، لديها اثنتين فقط وتستخدمهما لمدة طويلة، هناك آخرون يستخدمونها لمدة أقصر أو أطول، لا يمكن المتابعة هكذا. ولكننا ربما نوفّر، خلال عدد من الساعات، من معملين إلى ثلاثة بقدرة على إنتاج 100 ألف كيلواط، كقوّة، بالإضافة للنفقات من المحروقات وغيره من أجل إنتاج الكهرباء الذي يتم تبذيره، وهي قدرة تحتاجها البلاد لكي تبقى هذه اللمبات مضاءة على مدى ساعة، وتجبرها على هذا الاستهلاك.
عمَّ أنتم تتكلّمون؟ ممّ تضحكون (يومئون إلى سقف قاعة الشرف وقد امتلأت بعدد كبير من اللمبات المتوهّجة الصغيرة) آه! لا، أنا مستعدّ لدفع شيء لكي يبقوا عليها في مكانها، إنها جميلة جداً. ليس هذا بتبذير، إنما يتعلق الأمر بديكور تقليدي وتاريخي، وبالإضافة لذلك، لا تقام هنا احتفالات في كل يوم وكل ساعة. على كل حال الذنب هو ذنبي أنا، لأن هذه المنشأة قد بقيت مضاءة طيلة الوقت الذي أمضيته على هذا المنبر.
حسناً، شكراً جزيلاً.
(يتوجه بكلامه إلى شابة أخرى من سييغو دي آفيلا، تقف إلى جانب الفتاة السابقة من هافانا). سؤال: هل يوجد برّاد في منزلك؟ (تقول له بأنه معطَّل)
معطَّل؟ ألم يضعوا له الجلدة ولا معدِّل الحرارة؟ (ترد بالإيجاب).
ولماذا تعطّل من جديد؟ (تقول بأن الماكينة قد احترقت)
احترقت الماكينة، متى؟ (تقول بأنه منذ مدة من الزمن).
ما نوعه؟ (تقول بأنه روسي)
روسي، "Minsk"، أو صنع بمحركات روسية، "INPUD"، من سانتا كلارا واحترقت، استهلاكك أنت بالفعل كان أكبر بكثير من استهلاك اللمبات تلك.
سوف نفترض بأنه ليس معطلاً، الآن علينا أن نقول ماذا سنفعل بمثل حالتك، لأنه لا بد من تغيير البرّاد، فاستهلاكه الكهربائي زائد عن اللزوم.
قلت بأنني كنت يوم أمس الأول في وداع بعض العمال الاجتماعيين الذين كانوا في طريقهم إلى القيام بالاتصال بالشاحنات والجرارات، لمعرفة مكان وجودها، وأين يعيش أصحابها، وما هي أسماؤهم، والرقم الذي يحملونه، وكم تستهلك الآليات من محروقات، إذا كان ديزل بالساعة أو كم كيلومتراً بالليتر؛ ولكن لا حاجة للمرء لأن يكون واسع الاطلاع لكي يعرف بأن برّادك المعطل، "Minsk"، يستهلك الكثير من الكهرباء. ألا تذكرين؟
لا بدّ وأنه كان يستهلك حوالي 300 واط بالساعة، أنت نعم، كنت تجهزين على الجمهورية، فهذا البراد المعطّل وحده لا بدّ وانه كان يستهلك نحو سبعة كيلواط يومياً. لو كان عندك بدلاً من هذا آخر جديد، يستهلك أقل من أربعين واط في الساعة، كان بإمكانك –سأقول لك ما كان بإمكانك أن توفّريه، سوف أحاول، لن أحسب إلا 200 واط بالساعة- استهلاك 4.8 كيلواط بالساعة. تعلّموا عملية الضرب، فسيكون عليكم أن تفعلوا ذلك (يجري حسابات). على أساس 15 سنتاً الكيلواط، هي ستهدينا 15 و15، 30 و30، 72 سنتاً في اليوم. سوف يكون لديها برّادها. سوف نسجّلها، إنريكي.
أليس عندك أي برّاد الآن؟ (تقول أنه قيد التصليح)
من أين ستأتين بهذه الماكينة، قولي لي؟ (توضح بأنه سيتم لفّه)
انتظري، سوف نزيد حوالي 30 بالمائة أخرى، لأن هذه المحركات الملفوفة هي كارثة. إنريكي، كم تستهلك المحرّكات الملفوفة؟ هذا ما فعله أشخاص كثيرون؛ يتعطّل المحرك، لا يعود عندهم حلاً آخر، لا يمكن تحميلهم الذنب. الذنب هو ذنب الدولة، أستطيع أن أؤكد لك أمراً: قبل مرور ستة أشهر سوف يكون عندك برّاد لا يستهلك أكثر من أربعين واط في الساعة. إنني أكلّمك عمّا يتم تبذيره، ما يتم كبّه، يمكننا من خلالك أن نوفّر 200 في الساعة. وفّري هذا، للأسف أن المائة وخمسين التي كانت موجودة لدينا كاحتياط قد وزعناها للتو. ربما يكون قد بقي لدينا سبعة يا إنريكي، نستطيع إجراء تجربة هناك. إننا نقوم الآن بـ 150 تجربة في المدينة، سوف نعقد اجتماعاً مع ممثلي أرّوجو نارانخو، حيث يوجد 30 ألفاً يستهلكون غازاً سائلاً. سوف يقومون بزيارتهم.
إنريكي، كما عدد الذين غادروا لزيارة سكان أرّوجو نارانخو، وهم 50 ألف عائلة؟ (يجيب إنريكي أنه قد غادر اليوم 1098 عامل اجتماعي سيزورون حوالي 55 ألف عائلة. ويوضح أن معدل عدد زيارات كل واحد منهم هو حوالي عشرين منزلاً في اليوم، وعليه فإنه يقدّر بأن يكونوا قد زاروا اليوم نحو عشرين ألفاً).
خلال يومين يكونون قد زاروهم جميعاً. يكونون قد أخذوا ملاحظاتهم عن الأدوات المنزلية الموجودة في البلدية. إننا نقوم بتجارب اجتماعية قويّة. سوف نغيّر الغاز، ربما هم يسمعونني الآن، فهم الأكثر فقراً في هذه المدينة وقد وضعوا لهم غازاً سائلاً. سعر الغاز السائل: أكثر من 700 دولار الطن الواحد، 30 ألف ضرب 10 (يجري حسابات) إنها 300 ألف كيلوغرام، 300 طن من الغاز السائل، كحدّ أدنى، إنه استهلاك أرّوجو نارانخو. تصل إلى ثلاثة ملايين دولار سنوياً قيمة الاستهلاك التقريبي لأرّوجو نارانخو من الغاز السائل، هذا إذا كان بالفعل 30 ألف فقط عدد العائلات المستهلِكة.
سوف نقوم بتجربة هامة، ولكننا سنجمع كل المعطيات، سوف نجتمع مع كل الممثلين المباشِرين للأحياء والمجالس الشعبية والنقابات والمنظمات الجماهيرية، نحو 1500 شخص من أقرب الأشخاص، السكان، لنناقش معهم التجربة التي نزمع إجراءها، وأنا متأكد بأن ذلك سيشكل نجاحاً، إذا تمكّنت من التوفير الفوري من استهلاك الطاقة.
سوف نرى الاستهلاك في الشتاء، سوف نرى ما توفّره اللمبات التي سنوزّعها من الآن وحتى نهاية كانون الأول/ديسمبر؛ سوف نرى المراوح التي ستحل محل المراوح البدائية، والتي يصل عددها إلى مليون، والتي سيضاف إليها عدد مشابه من سخانات ماء يدوية كهربائية بسيطة، ولكنها فاعلة جداً، تقلّص بشكل كبير الاستهلاك الكهربائي اللازم لغلي المياه.
سيكون لدينا في شهر كانون الأول/ديسمبر 14 مليون جهاز وسنأخذ بتوزيعها: طناجر لطهي الأرز، طناجر ضغط كهربائية، سخانات ماء. ولا أدرج في هذا الرقم لمبات التوفير التي سيتم استبدال اللمبات المتوهّجة بها.
سوف نرى ما يحدث لبعض الآليات بعدما يتحدث كل واحد من أصحابها مع العمال الاجتماعيين وتلك التي سنقوم بدفنها. عندما تُعطى لكل وزارة الشاحنات التي يجب أن تكون لديها وعندما تتم مطالبتها بألا تكون جاهزية هذه الشاحنات دون التسعين بالمائة وأن تكون جميع هذه السيارات مسجلة، سيكون مدهشاً ما يتم توفيره من الطاقة عبر هذه الطريقة.
ولقول الحقيقة، لدينا أفكار لا أريد شرحها: المدة اللازمة بالضبط لكي لا يبقى هناك شاحنة واحدة من شاحنات البنزين وغيرها من الآلات الملتهِمة للطاقة.
لقد تكلّمنا عن توفير ثلثي هذه الطاقة. نفكّر بتوفير ما لا يقل عن مليون كيلواط/ساعة في مجال الطاقة في نهايات عام 2006، وهي كمية يتم توليدها اليوم من أجل تبذيرها، ولدينا القدرة على إنتاج 1.4 مليون كيلواط/ساعة على الأقل، بمعدات جديدة، عدا عن المعامل الجديدة الناشئة. وهذا على درجة أكبر من الضمانة من الأمور التي تم الإعلان عنها وتنفيذها وتلك التي لم يتم حتى الحديث وعنها وجرى تنفيذها.
لا حاجة لكثرة الكلام، ولكن هناك أفكار بدأنا بتطبيقها على المائدة. سنستغل فرصة أن الاستهلاك الكهربائي الآن في الشتاء يقل بنسبة 15 بالمائة، فكل جهاز سنقوم بوضعه يجب أن تكون طاقته الكهربائية مؤمنة، بل وأن تتمكن العائلة من طهي الطعام إذا حدث خلل في هذه الطاقة؛ يوجد الآن الكثير من المشكلات، ولكنها جميعاً قيد البحث الدقيق، ويتم العمل على حلها جميعاً.
لن أطيل كثيراً، ففي أي لحظة يمكن أن أعود ونتكلّم.
لقد تناولت العديد من المواضيع. من واجبنا أن نكون حازمين: إما نلحق الهزيمة بكل هذه الانحرافات ونجعل الثورة أقوى بتدمير ما يمكن أن يكون قد بقي لدى الإمبراطورية من أوهام، أو يمكننا القول: إما نذلل هذه المشكلات نهائياً وإما نموت. لا بد من التأكيد في هذا المجال على شعار: الوطن أو الموت! إنه أمر بالغ الجدّية، وسوف يتم استخدام كل القوى اللازمة، إذا استدعى الأمر، الثمانية وعشرون ألف عامل اجتماعي، وبما أن الذين يقومون بسرقة البنزين من الأفضل لهم أن ينتصحوا وألا نضطر للكشف بالتفصيل عمّا يقوم كل واحد بسرقته من المحروقات، لأنه أصبح جاهزاً لدينا عشرة آلاف عامل اجتماعي، وقد تحوّلت مدينة هافانا إلى مدرسة رائعة حيث يتم تعلّم ما ينبغي فعله، ونحن نتعلم المزيد يوماً بعد يوم، فإننا مستعدّون لاستخدام الثمانية وعشرين ألفاً والسبعة آلاف الذين يتلقون علومهم اليوم.
وإذا لم يكن الثمانية وعشرون ألفاً كافون، والذين أصبح جزء منهم يقوم بالعمل على تشكيل خلايا لمكافحة الفساد، لوضع خليه بالمرصاد حول كل نقطة يجب مراقبتها؛ ويوجد بينهم أعضاء من الشبيبة، أعضاء من المنظمات الجماهيرية، مقاتلون من الثورة –نفس الذي طرحناه في المدينة الرياضية.
يتم العناية بجدّية بالمشكلات المذكورة، وأنتم لا تتصوّرون مدى حماس العمال الاجتماعيين الشبان. لم يسبق لي أن رأيت في حياتي كل هذا القدر من الحماس، هذا القدر من الجدّية، كل هذا القدر من الكرامة والفخر، كل هذا الوعي للخير الذي سيقومون بفعله للبلاد.
لقد تكلّمت عن المحروقات، عن الطاقة بشكل عام، وهذا الأمر سيكون الأهم، ولكنه ليس الوحيد. كما يبلغ ما تمت سرقته هنا حتى في المعامل، معامل منتجة للأدوية، على سبيل المثال. أعرف واحداً في ليسا حيث اضطر الأمر لطرد المدير وكثير من الناس، حتى ما مجموعه 100 عامل؛ كانت إدارة ذلك المعمل وعدد كبير من الأشخاص مضطلعين في سرقة الأدوية. اضطر الأمر لإخراج مائة من هناك: ابحث عن هذا وعن غيره ليحلّوا محلّهم. ليس هذا كافياً ولن يكون الحل الوحيد.
وماذا بعد ذلك؟ يجب أيضاً استخدام كل الوسائل التقنية الموجودة بمتناول أيدينا. لقد تم شراء عدد كبير من كل المضخات الجديدة اللازمة لثلث محطات البنزين التي ستبقى في البلاد تقريباً، وكل شيء تم قياسه، وكذلك عدداً من صهاريج المحروقات الجديدة، التي لا تعرقل حركة المرور ولا تتسبب بالحوادث. معظمها سيعمل في ساعات الليل، في ساعات الحركة القليلة من المرور. لم نجرِ حساباً لعدد القتلى الذي تتسبب به الحوادث.
وليكن معروفاً تماماً بأنه يوماً ما، وبواسطة الوسائل المتطورة تقنياً، سيكون بإمكان الثورة أن تعرف أين تتواجد كل شاحنة، في أي مكان كان، في أي شارع. لن يستطيع أحد أن يهرب بالشاحنة ويذهب لرؤية عمته أو خالته أو غيرها أو لرؤية صديقته. المسألة ليست في أن تكون رؤية القريب أو الصديق أو الصديقة بأمر سيئ، ولكن أن تفعل ذلك بالشاحنة المخصصة للعمل، وحين تكون هناك أزمة محروقات في العالم يكون فعل ذلك جريمة أكبر؛ أو في الوقت الذي يتم فيه تسليم الناس قطعة صغيرة من الصابون بلا رائحة، والتي تم رفعها، ارتفاع بسيط، ولكننا نقوم بخطوات من أجل رفع هذه الحصة بشكل أكبر، الصابون، معجون الأسنان، كل واحد من الأمور الأساسية التي ذكرناها، لن يتم نسيان أي من التي يكون حلّها بمتناول أيدينا.
لدينا ألف حافلة تم شراؤها؛ ولكن ليس من أجل العمل بأسعار تاريخية. الآن يتجه جزء منها من مكان إلى آخر ويحل مشكلات حيوية، كالتي ذكرناها هنا؛ وسيصل عدد آخر من هذه الحافلات في الأشهر المقبلة.
يمكن للنقل أن يتلقى دعماً، ولكن ليس بنسبة التسعين بالمائة من كلفته، فمن شأن ذلك أن يكون كارثياً، بل يجب أن يكون في حده الأدنى. نحن بحاجة لتطبيق أكبر عقلانية ممكنة على الرواتب، على الأسعار، على بدل التقاعد، على المعاشات. صفر تبذير. نحن لسنا مجبورين. لسنا في بلد رأسمالي حيت يُترَك كل شيء للصدفة.
الدعم أو التوفير بالمجان لن يكونا إلا في الحالات الأساسية والهامة. لن يتم قبض بدل الخدمات الطبية ولا التعليمية ولا غيرهما من الخدمات المشابهة. ستكون هناك حاجة لقبض بدل السكن. لاحِظوا كم. يمكن توفير بعض الدعم لذلك، ربما يتم توفيره، ولكن ما يتم دفعه خلال عدد معين من السنوات يجب أن يكون قريباً من قيمة التكلفة. ربما تقولون: وممَّ سندفع التكاليف؟ جزء كبير مما يتم اليوم ازدراءه، تتم سرقته، وبالمداخيل غير القليلة التي ستأخذ البلاد بتلقيها على نحو أكبر يوماً بعد يوم. كل شيء بمتناول أيدينا، كل شيء هو للشعب، الأمر الوحيد الذي لا يمكن السماح به هو تبذير الثروات على نحو أناني وغير مسؤول.
الحقيقة أنه لم تكن لديّ النية على الدخول في محاضرة حول مواضيع ذات حساسية بالغة، ولكنه يشكل جريمة عدم استغلال لهذه الفرصة لقول بعض الأمور التي هي على صلة بالاقتصاد، بالحياة المادية للبلاد، بمصير الثورة، بالأفكار الثورية، بالأسباب التي حملتنا على بدء النضال، بالقوة الجبارة التي نتمتع بها اليوم، ما نحن وما يمكننا أن نكون عليه من بلد، وأكبر بكثير مما نحن عليه.
ليس من شأني أن أعود أبداً إلى هذا المكان لو كنت أكذب، أو لو كنت أبالغ. حبي للعمل هو أكبر من حبي لإطلاق الوعود. على كل حال أنا لا أفعل شيئاً، فرجل بمفرده لا يفعل شيئاً. على كل حال، أستغلّ الخبرة أو السلطة التي يمكنني أن أتمتع بها بين أبناء وطننا لكي نخوض معارك. هناك ملايين من الكوبيين الجاهزين لحرب كل الشعب.
قلت بأننا قد حققنا المناعة العسكرية، وأن هذه الإمبراطورية لا يمكنها أن تدفع ما عليها أن تدفعه من الأرواح، وهو ما لا تتصور، فهو ثمن ربما يبلغ أو يزيد عما دفعته في فيتنام، إذا ما حاولت احتلال بلدنا، والمجتمع الأمريكي لم يعد مستعداً ليمنح حكامه صلاحية زهق أرواح عشرات الآلاف من الأشخاص في مغامراتهم الإمبراطورية. سنرى إن كان سيصل العدد إلى 3000 في العراق، فقد أصبح هناك أكثر من 2000، وترد أنباء أسوأ في كل يوم بالنسبة للذين شنوا الحرب.
سنرى ما سيحدث لهذا الحصار القذر، لأن هناك أمريكيين كثيرين متألمين لعدم قبول الأطباء الكوبيين، فالأغلبية كانت تريد ذلك، وخاصة السلطات المحلية.
سوف نرى، لأننا سنثبت لهم بأنه من الأفضل أن ينهوا هذه القذارة، التي لن تقوى أبداً على تدمير الثورة. ولأوروبا نستطيع أن نقول: احتفظوا بمساعدتكم الإنسانية، احتفظوا بها كلها، فنحن لسنا بحاجة لها. يا له من أمر عظيم أن تستطيع القول بأنك لا تحتاج لأوروبا ولا تحتاج للإمبراطورية. ارفعوه متى شئتم، فنحنا لسنا بحاجة لأن تقوموا برفعه، لأنكم علمتمونا، تعلّمنا على التوفير، تعلمنا على التفكير، تعلّمنا على أن نكبر، وتعلمنا على مضاعفة جهودنا لكي نكون بمستوى البعد الهائل للخصم.
لقد تحدثت معكم بكل الثقة التي يمكنني أن أتحدّث بها. حدّثتكم عن كل واحدة من المهمات الرئيسية لفرق العمال الاجتماعيين، وأثر تحركاتها الكبير. اضطرهم الأمر في بعض الأحيان لأن يتحركوا بشكل مباغِت، بسرعة والتزام وفاعلية. في مدينة هافانا بلغ عددهم آلاف وقمنا بحشد آلاف أخرى كاحتياط.
إنهم يعكفون على بحث العديد من المهمات. إذا لم يكن عددهم كافياً، كم يبلغ عدد طلاب هذه الجامعة؟ أقول لكم منذ الآن ما سبق وقلته لهم هم: إذا لم يكن الثمانية وعشرون ألفاً عددا كافياً، نجتمع بكم أنتم، طلاب "اتحاد الطلبة الجامعيين" المجيد، وأنتم تؤمِّنون لنا 28 ألفاً آخرين (تصفيق)، وإلى جانب العمال الاجتماعيين، الآخذين باكتساب خبرة، إذا اضطر الأمر لحشدهم جميعاً، نقوم بحشدهم، وإذا لم يكن الستة وخمسون ألفاً عدداً كافياً، نجتمع معكم وأنتم تبحثون لنا عن 56 ألف كتعزيز.
هل تعرفون من يؤمّن لهم مكان السكن؟ الشعب، كما في كل مكان؛ الشعب، الذي عنده تقييم رفيع لهؤلاء الفتيان، ولن يبقى هناك بعدها كثيرون ممن يقولون: "لا يمكن تسوية هذا الوضع"، :لا يمكن لهذا الوضع أن ينتهي أبداً". إلى جانبكم، إلى جانب الشعب، سنثبت أنه نعم بالإمكان ذلك. واعتقد أنه سيتوفر لدينا قدراً أكبر بكثير من الموارد، ليس فقط من أجل تلبية الاحتياجات، وإنما من أجل نموّنا، لأننا نقوم بإدارتها على نحو أفضل. كثير من الأشياء التي نحققها، إنما نحققها بواسطة الموارد التي قمنا بتوفيرها. فها قد بدأنا بتوفير مئات الملايين من الدولارات، والتوفير يعتمد على الوتيرة والفاعلية التي نصنع بها كل شيء.
تظهر في كل يوم أفكار جديدة، وما نوفّره من الطاقة يتحوّل على الفور إلى موارد. سوف تختفي من الوجود أسوأ المعامل الكهرو-حرارية في البلاد وأكثرها استهلاكاً. غير أننا سندعها جاهزة من أجل مواجهة أي أمر طارئ غير متوقع ينشأ خلال المسيرة.
في إنتاج الكهرباء فقط تستهلك البلاد ثلاثة ملايين و800 ألف طن من المحروقات سنوياً. يبلغ استغلال نظامنا الكهربائي نسبة بالكاد تصل إلى 60 بالمائة.
لن نعود لبناء أي معمل كهرو-حراري. إنما سنبني معامِل تستخدِم الغاز المرافِق للنفط، معامل الدورة المركّبة التي، بعد استعادة تكاليفها خلال أربع أو خمس سنوات، بقبض 10 سنتات بدل الكهرباء، وهي تعريفة تستطيع الفنادق، على سبيل المثال، دفعها، تعوَّض تكاليفها خلال ما بين أربع وخمس سنوات ثم تنتج بعدها الكيلواط الواحد بكلفة سنتين اثنين من الدولار.
لن نعود أبداً لبنا معمل كمعمل "غيتيراس". إنما هذه المعامل هي عمل جنوني، لا بد وأن من بنوها كانوا مليئين بالدوغمائية وبالتخطيطية. في نظام كان يحتاج لإنتاج نحو مليوني كيلواط، وشراء معمل بقوة 330 ألف، هو تركيز أكثر من 15% من القدرة التوليدية الفعلية في معمل واحد، وعندما يتم إطفاءه، أو تضربه صاعقة، كما ضربت إحداها معمل "غيتيراس" قبل بضعة أسابيع، يأتي انقطاع التيار، ثم انقطاع التيار، وانقطاع التيار يضرب بقوّة المواطنين والاقتصاد. وإلى متى كانت ستتحمل الثورة حماقة التخطيط الخاطئ الذي كان قائماً لتطوير النظام الكهربائي؟ وهو تخطيط أؤكد لكم بأنه لم يكن لكوبا وحدها، ونحن اليوم البلد الأول في العالم في اكتشاف الأمر، وسيكون عليهم أن يأتوا ليروا ما نقوم نحن بفعله.
لن أقول المزيد، فبإمكاني أن أقول أموراً بالغة الأهمية.
سوف ننتقل من كوننا بلد غبي إلى بلد يترك باقي البلدان في المؤخرة. أود أن أنبهكم بأنهم يشكون اليوم من ذات الوجع ويرتكبون الخطأ نفسه.
لا، لا أريد التعداد. أعدكم بأن أسرد عليكم القصة يوماً ما، وعلى القادة الطلابيين، ربما على الموجودين هنا. ولكن ليس اليوم، فاليوم عليّ أن أصمت، لأنه يمكن للكلام أن ينبّه، يمكن للكلام أن يرشد العدو. طبعاً، بما أقوم بذكره الآن هناك أمور لا يستطيعون إيقافها، كالمليونين ونصف المليون طنجرة ضغط الكهربائية التي أصبحت موجودة هنا أو هي في الطريق، لن يوقف ذلك أحد، وما هو في الطريق عبارة عن أشياء تم شراؤها من الصين. والصين ليست بجزيرة صغيرة، الصين هي واحد من أكبر البلدان في العالم، وقد تحول اليوم إلى المحرك الرئيسي للاقتصاد العالمي، والصين هي بلد ينتج الكثير من الأمور، ونقوم معهم ببحث مشتريات أخرى وإجراءات للتبادل، وهي تجري بوتيرة متزايدة.
لقد ذكرت لكم بأن مصداقية بلدنا قد كبرت. يستطيع هذا البلد أن يحشد آلاف الملايين من الدولارات، ونقول ذلك "للصغير بوش"، لكي تصبح حياته أكثر مرارة إذا أراد ذلك، ولؤلئك الذين يقومون بزرع الدسائس؛؛ فليقولوا ما يخطر على بالهم يوم غد، عن "المساكين"، عن هؤلاء الناس "بالغي النبل"، الذين لم يكونوا يسرقون "إلا القليل"، عن الذين يقبضون من الشعب أي سعر كان مقابل أي شيء، أقول لهم إلى جانبكم: "ادفعوا ثمن المحروقات التي تقومون باستهلاكها". الحقيقة أن كل هذا الذي نقوم بإهدائه للتاجر لحسابه الخاص، ما نقوم بإهدائه لابن العصابة ذاك، أو ذاك البخيل، أو ذلك الأناني الذي يريدنا أن ندفع 15 سنتاً مقابل كل كيلواط يستهلكه هو، لماذا؟ أي قانون من قوانين الاقتصاد العالمي يرغمنا على ذلك؟ وليستعدّوا، لأننا أجرينا كل الحسابات. لقد قمنا مرة بخفض قيمة دولارهم، ولكن هذا الدولار آخذ بالتمتع بالكثير من الامتيازات.
طبعاً، لا الدولار ولا أولئك الذين يقومون بالسرقة هم أصحاب معهد الأرصاد الجوية، فهناك أعاصير تهبّ، ولكن أحد لا يعرف الاتجاه الذي ستأخذه، إذا كان باتجاه الغرب الشمال الغربي وثلاث درجات إضافية باتجاه الشمال أو باتجاه الجنوب، وبأي رياح ومدى قوتها. الأمر الوحيد الذي أقوله هو أنه إعصار من الدرجة الخامسة (ضحك). الإعصار من الدرجة الخامسة هو إعصار لا يدع شيئاً واقفاً، بدون ارتكاب ظلم، وبدون قتل أحداً جوعاً، وإنما بكل بساطة عبر مبادئ بسيطة جداً: على بطاقة التموين أن تختفي من الوجود؛ أولئك الذين يعملون وينتجون سيتلقون المزيد، وسيتمكنون من شراء مزيداً من الأمور؛ والذين عملوا على مدى عقود سيتلقون المزيد وسيتمتعون بقدر أكبر من الأمور. وستتمتع البلاد أكثر مما تتمتع به بكثير ولكنها لن تكون أبداً مجتمعاً استهلاكياً، ستكون مجتمع معارف، ثقافة، مجتمع مزيد من التطور البشري ما فوق العادي الذي يمكن تصوّره، مجتمع تطوير للثقافة، للفنون، للعلوم، وليس الأسلحة الكيماوية، بحرية كاملة لا يستطيع أحد قطعها. إننا نعرف ذلك، لا حجة حتى للإعلان عنه، مع أنه نعم، يجب التذكير به.
لقد كسبنا هذا الحق بفعل ما سنقوم بفعله اليوم، والتمتع بحوالي مليون مهني ومثقف وفنان، التمتع بخمسمائة ألف طالب في جامعاتنا، من كل فروع العلوم، وهم قادرون على اكتساب المهارات والارتقاء بهذه المهارات، ويمكنهم الانتقال من نشاط إلى آخر وسيكون بوسعهم القيام بأشياء كثيرة.
أنبّهكم إلى أن مجتمعنا سيكون في الواقع مجتمعاً جديداً بالكامل. وفي هذا السباق طويل المسافة، أصبحنا نتقدم بكثير على أقربهم إليها. ليس هذا بأي فضيلة، الفضيلة تكمن في الإمبراطورية، فقد كان التهديد الذي وضعتنا تحته بالغ العظم، التحدي الذي فرضته علينا. الفضيلة تكمن فيهم هم، الأمر الوحيد الذي قام به شعبنا النبيل والسخي والباسل والذكي هو الرد؛ وهو يردّ اليوم بالقوة العظمى التي تنمّ عن الكثير مما طوّره من ذكاء.
واليوم، في الوقت الذي نتحدث فيه هنا عن 500 ألف، حدث ذلك خلال مدة قصيرة الزمن؛ فقبل ثلاث سنوات بالكاد، كم كان عندنا وكم سيكون عندنا غداً.
شيء آخر، سيكون لدينا عشرات الآلاف من الطلاب الأمريكيين اللاتينيين في مدارس الطب، وبلدنا وحده يجب أن يخرّج خلال السنوات العشر المقبلة مائة ألف طبيب. ها نحن قد بدأنا سعينا لخلق أفضل رأسمال طبي في العالم، وهو ليس لنا فقط، لنا نحن الذين أهلنا وسنواصل التأهيل، ولشعوب أمريكا اللاتينية ولغيرها من شعوب العالم، التي بدأت تطلب منّا أن نؤهل لها الأطباء، لدينا ما يلزم من أجل تأهيلهم ولا أحد يستطيع تأهيلهم أفضل منّا. لقد طوّرنا مناهج تعليمية لم نكن ولا حتى نحلم بها. سوف نرى ذلك، وعاجلاً.
لن يكون في المدرسة الأمريكية اللاتينية للعلوم الطبية 12 ألف طالب طب فقط، أصبح فيها الآن ألفا شاب بوليفي من خريجي المرحلة الثانوية؛ وبالإضافة لطلاب المدرسة الأمريكية اللاتينية للعلوم الطبية، هناك عدد منهم في سيينفويغوس، ينزلون في منازل عائلات من تلك المحافظة، وهي عائلات جدّية، وذات تأهيل مهني وثقافي، تمت دراسة خواصها السيكولوجية، وكذلك الخواص السيكولوجية للطالب ولعائلة الطالب، إنها تجربة جديدة وفريدة من نوعها.
تحدثت عن هذا الموضوع يوم أمس مع البعض، إنه التضامن وقد تحوّل إلى ثروة هائلة. كيف يمكن إيواء مائة ألف طالب من المستوى التعليمي العالي؟ ونعرف ماذا يكلّف كل واحد منهم، ماذا يكلّف غذاؤهم، وماذا تكلّف إقامتهم.
تعرف أننا بنينا في المرحلة الأولى من الثورة مئات المدارس الإعدادية والثانوية، ولدينا اليوم أقل من نصف عدد المسجّلين في أعوام السبعينات؛ نعرف ما تبلغه تكاليف ترميمها، والمدة اللازمة لترميمها. سيكون هناك الكثير من مدارس الطب التي تتسع لأربعمائة أو لخمسمائة تلميذ بظروف مادية ممتازة، والمعدات اللازمة للدراسة والوسائل المسموعة والمرئية والبرامج التفاعلية. وكما نعرف، وكما ذكر الرفيق ماتشادو، أنه لو توفّرت لديه هذه الموارد خلال السنوات الخمس التي درس علومه فيها، لكان قد تمكن خلال سنة واحدة من اكتساب المعارف التي احتاج خمس سنوات لاكتسابها. وهذا لا يعني أننا سنؤهل طبيباً خلال سنة واحدة، وإنما أن الطبيب الذي يتلقى علومه على مدار ست سنوات سوف يتمتع بمعارف يحتاج لعشرين سنة من أجل اكتسابها من خلال المناهج التقليدية. إنني أفكر بالجودة، بالجودة!، التي نأخذ باكتسابها على نحو أكبر يوماً بعد يوم.
نعرف ما يقوم بفعله أبناء وطننا الآن في كل مكان، فنحن على اتصال دائم معهم، أعضاء فرقة "هنري ريف" وغيره من الفتيان. إنما هي قصة رائعة بكل معنى الكلمة تسجَّل أحداثها في هذه اللحظة، كما لم يسبق لها أن سُجِّلت في تاريخ وفي حياة ثورتنا.
يسعدني أن أفكر أنه في يوم كهذا، عيد الطالب، وهذا اليوم الذي اخترتم لإحياء الذكرى الستين لدخولي إلى هذه الجامعة، أشعر بسعادة روحية وجسدية بالفعل لاجتماعي بكم. إنها كثيرة الأشياء التي خطرت على بالي، وكان عليّ أن آخذ بتنظيم ذكريات الأمس وأفكار اليوم الجديدة، وأن أكون حذراً لكي لا أقول ما لا ينبغي عليّ قوله وأقول كل ما عليّ قوله.
أني أعتقد، وهذا أمر أناقشه الآن مع الرفاق عبر اتصالي بهم، بأنه خلال هذا الشهر نفسه علينا أن نتخذ بعض الإجراءات. قلت هذا الشهر، وفلا ينبغي إضاعة دقيقة واحدة، لأن هناك أمور قد بدأت تصل من هنا ومن هناك.
نحتاج بشكل عاجل لبعض الكبح لتبذير الكهرباء. لاحِظوا، بعض الكبح، ليست الصيغة النهائية، فهذه تختلف؛ ولكن، الآن، وقد بدأنا نوزّع بشكل واسع عدداً من الأجهزة، وكلما تمكنّا من توزيع عدد أكبر كلّما وفّرنا قدراً أكبر من الطاقة وقدراً أكبر من الأموال نبدأ بجمعه اعتباراً من نهايات هذه السنة وبدايات العام المقبل، ولكن لا بدّ من الدخول في شهر كانون الأول/ديسمبر وقد وضعنا حدّاً ما للتبذير الهائل للكهرباء.
لا، لن تزيد التعريفة سنتاً واحداً بالنسبة للذين يستهلكون 100 كيلواط، وزيادة قليلة لؤلئك الذين يستهلكون 150، 200، 300 كيلواط. طبعاً سيكون هناك من يستهلك 300، والذي سيكون عليه أن يدفع تعريفة أكثر ارتفاعاً بعد، ولكن ليس بدرجة مبالغ فيها. لعل هؤلاء المبذرون، سيتوجب عليهم أن يدفعوا بدل الدولارين أربعة دولارات مقابل 300 كيلواط؛ وإلا، فلا يستهلكنّ أكثر من 300 كيلواط، فليطفئوا الأنوار غير اللازمة، فليطفئوا المروحة، فليطفئوا التلفاز. لم أشر لذلك، ولكن هناك مليون تلفاز، 40 ألف بين أيدينا والباقي على الطريق، بقوة 50 واط، لكي لا يبقى تلفاز واحد بالأبيض والأسود.
قدر هائل كبير من التوفير، قدر هائل، وقد تم التحقق في مختبر مما يستهلكه كل جهاز. وتم قياس كل شيء وكل الحسابات هي دون النتائج التي تشير إليها الأرقام؛ ليس هناك من تفصيل صغير، مهما صغر حجمه، إلا وتم بحثه، وفي كل يوم يتم إجراء مزيد ومزيد ومزيد من التجارب. سوف نجري واحدة الآن في بلدية كاملة، الأكثر فقراً، ولهذا دخل العمال الاجتماعيون اليوم إلى هناك؛ كما تدخل إلى سيينفويغوس قوة تقوم بتغيير اللمبات.
إنريكي، في أي يوم سيتم استلام محطات البنزين في تلك المحافظة؟ لا يهم، فليعرفوا ذلك، فلا بدّ وأنهم يتصوّرونه (يشرح له إنريكي بأنه سيتم القيام بذلك اعتباراً من يوم السبت، وأنه قد تم تغيير 158 ألف لمبة في سيينفويغوس وما تبقى سوف يتم استكماله يوم غد).
(يسلّم أحدهم لمبتين للقائد العام للطالبة ابنة محافظة هافانا)
إنريكي، هذا لا ينفع، ما لديها هي بيدها. إنها تستهلك الكهرباء هباء. بسرعة، فنحن نقترب من النهاية.
آه..! الفتاة موجودة هنا. ولكن هذه اللمبة بقوة 7 (يوضّح له إنريكي أن واحدة بقوة سبعة والأخرى بقوة 15).
ولكن هي عندها اثنتين بقوة 60، لا تطفئ النور على الفتاة، لا تطفئ لها نور المنزل. لقد قالت لي بأن عندها اثنتين بقوة 60. قلت بأن يتم تسليمها اثنتين بقوة 15.
خذ، أنت لا، هي. أعطيهما لها، قل لها بأنه قد أصبح عندها واحدة (يسلّمونه اللمبتين بقوة 15) لقد أصبحنا على دراية بما نستهلكه سنوياً. وليس هو بالقليل (تصفيق).
سوف نحسمه مما تدفعه لدعم تلك اللمبة الموجودة هناك.
كم لمبة ستبدّلون في سيينفويغوس (يجيب إنريكي بأنه يوجد في سيينفويغوس 207 آلاف لمبة بانتظار استبدالها)
وكم عدد التي تم اكتشافها بعد؟ (يقول بأن الطلب قد ارتفع وسيتم إرسال 100 ألف لمبة أخرى إلى هناك).
اتفقنا على 150 ألف لمبة في هافانا (يوضح أنها في الطريق؛ بأنه قد تم استبدال 158 ألف من خلال الأربعمائة عامل اجتماعي الذين يقومون بهذه المهمة، بالإضافة لثلاثمائة وستين تم إرسالهم كتعزيز. يؤكد من جديد أنهم سيبدأون عملهم اعتباراً من يوم السبت في محطات البنزين).
جيد. وبعد غد في محطات البنزين. فليأخذوا بتحضير كل شيء، فعلى كل حال سوف نكتشف ما يشتريه الناس، وفيما بعد ستكون هناك آليات توزيع مثلى وستعرف البلاد أين تتواجد كل آلية.
ما هي كمية المحروقات التي يستهلكها كل الذين يستخدمون السيارات؛ ليس فقط الشاحنات، بل وحتى الرافعات في أعمال البناء، كما حدث في تلك المناسبة؟ كم تستهلك كل جرارات وزارة السكر؟ كم تستهلك كل الجرارات في الريف، التي تعدّ بعشرات الآلاف وتقوم بوظيفة سيارات جيب، هكذا بكل نفس مطمئنة؟ كم يبلغ عدد الذين يستخدمون المازوت للطهي حين ينفد لديهم الكاز، وهي المحروقات التي تستخدمها الأغلبية؟ إنهم مئات الآلاف، مئات الآلاف ومئات الآلاف.
إلى جانب ذلك آلات جديدة كلياً، ذات قدرة على الحفر، زلزالية جديدة، وهي حديثة جداً، تحفر في أي مكان يحتاج الأمر للحفر فيه وباستخدام الغاز المرافق من أجل الأخذ بإقامة معامل توليد ذات دورات مركّبة تحل إلى الأبد محل معمل "غيتيراس"، أو تلك المعامل الوحشية في سنتياغو دي كوبا التي تستهلك نصف المليون طن من الديزل التي تنتجها مصفاة تلك المدينة، واستهلاكها ما بين 300 و350 غراماً من الفويل-أويل لإنتاج كيلواط واحد من الكهرباء، أو تلك الآلات التي تلتهم الديزل في سان خوسيه دي لاس لاخاس، حيث من أجل إنتاج 60 ألف كيلواط في الساعات ذات الطلب الأعلى تستهلك 400 غرام من المازوت مقابل الكيلواط الواحد. لا تندهشوا يوم تسمعون بأنه قد تم سحبها كلياً من الخدمة؛ لن يتم سحب واحدة منها ما دام قائم خطر التعرض لعجز، لأن علينا أن نأخذ بتوفير الضمانة لعدم الوقوع في ذلك. سوف تكون هناك تغيّرات كبيرة.
لقد ذكرت لكم بأن هناك ألف حافلة من تلك المخصصة لقطع مسافات طويلة، وستكون مكلفة. ليس الآن، لأننا نفضّل الانتظار. في بعض الأحيان يحتاج الأمر للانتظار لكي يكون هناك تفهماً لشيءٍ ما. على سبيل المثال، لكي يكون هناك تفهم لإجراء ما، ما تحتاجه الثورة دائماً هو تفهّم الشعب ودعمه للخطوات التي يتم القيام بها، لأنني أؤكد لكم –أكررها هنا- بأن كل الشعب العامل سيتلقّى المزيد، كل الذين يعملون من أجل البلاد ومن أجل الثورة سيتلقون المزيد أيضاً؛ سيوضع حداً لكثير من المظالم، وسوف يتم الأخذ بالقضاء على مقوّمات الكثير من هذه التفاوتات، الظروف التي تسمح بذلك؛ حين لا يكون هناك أحد مضطر لاستلام الدعم، نكون قد تقدّمنا بشكل كبير في المسيرة نحو مجتمع عادل وكريم، وهو ما تسعى له أي اشتراكية حقيقية ولا رجعة فيها.
حلمت الإمبراطورية بأن يُفتح عدد أكبر بكثير من المطاعم للحساب الخاص، ولكن يمكن ألا يبقى واحداً منها؛ وإلا، ما الذي يظنّوه هم، بأننا قد أصبحنا نيوليبراليين؟ لم يصبح أي منّا نيوليبرالياً، ولكننا سنثبت لهم على نحو لا يُدحَض أزمة نظرياتهم، كما أثبتنا لهم فشل الحصار، وفشل اعتداءاتهم وما يرتكبونه من أعمال لإثارة الاضطراب.
ربما يكون في العام المقبل عدد أصغر من حالات الامتناع في التصويت ضد الحصار في الأمم المتحدة، مع أنه لم يبق أحد، إلا الحليف الفاشي والمجرم الذي يصوّت دائماً بلا أي وجل إلى جانب الإمبراطورية.
سيكون على العالم أن يخوض معركة.
لا ينبغي أن يكون من حق أحد إنتاج أسلحة نووية. وخاصة الحق المتميّز الذي فرضته الإمبريالية من أجل فرض هيمنتها على بلدان العالم الثالث ونهب ثرواتها الطبيعية وموادها الأولية. لقد كشفنا عن ذلك ألف مرة، ولكنه ليس الحل. الحل الأول بالنسبة لبلدٍ من العالم الثالث هو ألا يخاف منها أبداً، هكذا فعلنا نحن دائماً وها قد بدأت بالانهيار قدراتها المعنوية.
ثانياً، سندافع بشدة في جميع منابر العالم عن حق الشعوب بإنتاج المحروقات النووية ولن ينتابنا أي خوف من ذلك (تصفيق).
يجب أن تنتهي من العالم المظالم وسؤدد القوة والإرهاب. إن هذا يختفي أمام الغياب الكامل للخوف ويزداد يوماً بعد يوم عدد الشعوب التي تشعر بقدر أقل من الخوف، وسيكون أكبر يوماً بعد يوم عدد الذين يتمردون ولن يكون بوسع الإمبراطورية أن تحافظ على النظام المشين الذي ما زالت تحافظ عليه.
قال سلفادور أليندي بأنه عاجلاً أم آجلاً، وأنا أظن بأنه عاجلاً ستنحل هذه الإمبراطورية وسيحظى شعب الولايات المتحدة بحرية أكبر من أي وقت مضى، سيكون بوسعه أن يطمح للعدالة أكثر من أي وقت مضى؛ وسيكون بمقدوره استخدام العلم والتكنولوجيا لمنفعته هو نفسه ولمنفعة البشرية، سيكون بوسعه الانضمام إلى الذين يناضلون من أجل بقاء الجنس البشري، والالتحاق بالمناضلين من أجل إتاحة فرصة أمام الجنس البشري الذي ينتمي إليه.
إنه لمن المحق تماماً النضال من أجل ذلك، ولهذا من واجبنا أن نستخدم كل طاقاتنا، كل جهودنا، وكل وقتنا من أجل التمكن من القول بصوت ملايين أو مئات أو آلاف الملايين: يستحق الأمر أننا ولدنا! يستحق الأمر أننا عشنا!
(تصفيق حاد)