جواب القائد العام فيدل كاسترو روس على مدير الطاولة المستديرة الإعلامية، في الخامس والعشرين من نيسان/أبريل، بشأن تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الكندي، جين كريتيان، خلال انعقاد "قمة الأمريكتين" الثالثة.
Fecha:
فيدل كاسترو: جيد جداً، والآن، عليكم بالصبر. ربما تكون هذه المادة هامة، هذا إذا ما سمحت لي بالكلمة.
بدا لي بأن الأمر يستحق تخصيص بضع دقائق لذلك.
هل تريد أن تتحدث عن مقر القمة؟
راندي ألونسو: عن البلد مقر انعقاد القمة الثالثة والتصريحات التي أدلى بها رئيس وزرائه… رئيس الوزراء أدلى بعدة تصريحات، وكانت هناك تصريحات لوزير الخارجية أيضاً.
فيدل كاسترو: نعم، لقد اخترت واحدة منها، لأن معرفتي الأكبر هي برئيس الوزراء، وهو الذي لي معه صداقة أكبر.
حسناً، لكي يعرف الشعب ما يتعلق به الأمر.
"كيبيك (كندا)، 19 نيسان/أبريل (ا.ف.ا).- برر رئيس الوزراء الكندي، جين كريتيان، اليوم استثناء كوبا من قمة الأمريكتين الثالثة بعدم وجود بوادر من جانب النظام الكوبي في مواضيع تتعلق بحقوق الإنسان رغم ‘قضائه ساعات وهو يحاول إقناع‘ فيدل كاسترو بأن يغيّر سياسته.
"عند وصوله إلى مركز المؤتمرات في كيبيك، حيث ستنعقد القمة في نهاية هذا الأسبوع، سؤل كريتيان عمّا إذا كان قد غيّر رأيه حيال إدراج كوبا في عملية قمم الأمريكتين، ففي الاجتماعين السابقين المنعقدين في كل من ميامي وسنتياغو دي شيلي كان قد طلب حضور نظام كاسترو.
أجاب كريتيان: ‘لم أغيّر رأيي‘.
"وبدا رئيس الوزراء الكندي جافاً حين سوئل عمّا إذا كان عدم حضور كوبا في كيبيك يعود إلى رفض واشنطن.
"كما أنه حين تم الإصرار عليه بأن يذكر أي بلد آخر من بلدان القارة قد اعترض على مشاركة كاسترو في قمة الأمريكتين الثالثة، رد كريتيان على الصحافي بالقول: ‘اسألهم هم‘.
"وأضاف رئيس الوزراء الكندي بأنه قضى ‘ساعات وساعات محاولاً إقناع كاسترو‘ بأن يوقّع بعض الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان، ولكنه لم يحقق أي بادرة من جانب نظام هافانا‘.
"وأكد كريتيان: ‘قضيت ساعات معه (فيدل كاسترو) محاولاً إقناعه بتوقيع بعض قرارات منظمة الأمم المتحدة‘".
لقد أمعنت كثيراً بهذا التصريح الذي أدلى به السيد كريتيان. لم يكن مضطراً أبداً لإجراء تقييم علني متسرّع ومرتجل لذلك اللقاء.
لقد عملت باحثا عن معطيات ومستذكراً بأكبر قدر من الموضوعية ما تحدثنا عنه هناك والمناخ الذي جرى فيه تبادل وجهات نظرنا.
نظراً لضرورة مراعاة الدقة بفعل حساسية المواضيع، أحضرت معي فكرة مكتوبة.
بالكاد بدأ اجتماعنا، وعلى نحو مفاجئ تقريباً، وضع على الطاولة قائمة صغيرة من الأسماء، بدا جلياً بأنها حديثة الوصول ليديه. تكهنت تقريباً بما يتعلق به الأمر. فمن المعتاد أنه كلما زارتنا شخصية سياسية من أي بلد حليف للولايات المتحدة أو رجل سياسي أمريكي ما تقوم وزارة الخارجية بتسليمه قائمة بأسماء أشخاص محاكمين أو معاقبين لقيامهم بنشاطات معادية للثورة؛ ويأتي في مقدمة تلك الأسماء عادة أولئك الذين هم على أهمية واهتمام أكبر بالنسبة لخدمات التجسس ولحكومة الولايات المتحدة؛ وتلتمس العفو عن هؤلاء أو الإفراج عنهم. إنه تكتيك ثابت عند حكومة الولايات المتحدة لممارسة الضغط لصالح أصدقائهم واغتنام الفرصة عند القيام بأية زيارة ودية إلى كوبا. وبما أن العمل بأكبر قد ممكن من التسامح لأمر معتاد في بلدنا، فإن السلطات لا تقوم إلا في حالات استثنائية باعتقال أو محاكمة المتورطين، أي عندما تكون أعمالهم الاستفزازية خطيرة ولا يمكن السكوت عنها أبداً.
ذكّرني رئيس الوزراء الكندي بأنه بمناسبة زيارة البابا قد تم العفو عن عدد من المحكومين بسبب ارتكابهم أعمالاً معادية للثورة، وأنه قد تعهد بطلب ذات الشيء للذين أدرجت أسماؤهم ضمن القائمة.
الحقيقة أن البابا لم يتناول هذا الموضوع أبداً في محادثته معي، وكان قد فعل ذلك من خلال سكرتير خارجيته في اجتماع آخر مع وزير العلاقات الخارجية.
وبدون أن ينتظر الإجابة، طرح على الفور بأن توقّع كوبا معاهدة الأمم المتحدة حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فكوبا قد صنعت في هذا المجال كما فعل أي بلد آخر في العالم أو أكثر منه. كانت هذه، دون شك، عبارة ثناء وطريقة أكثر حذقاً وملاءمة لطرح أمرٍ ما.
أذكر بأنه أشار بعد ذلك مباشرة إلى اتفاق التجارة الحرة بين كندا والمكسيك والولايات المتحدة، ومشاريع فعل ذلك مع بقية أمريكا اللاتينية، معبّراً عن وجهة نظره بأنه يمكن لكوبا أن تقدم مساهمة كبيرة في هذا الشأن.
وفي الختام تعرض لذكر اتفاق إزالة الألغام المضادة للأفراد، معرباً عن أسفه لعدم توقيع كوبا له وطالباً بأن تفعل ذلك. كانت هذه هي النقاط الأربعة التي بدأ بها محادثاته. جميعها بدت بأنها بسيطة جداً؛ غير أن أربعتها هي في غاية التعقيد.
سألته عمّا إذا كان من المعتاد أن يبدأ السياسيون الكنديون بأصعب الأمور، وأضفت بلهجة مازحة بأنه إذا لم نجتز هذه الامتحانات بنجاح فنكون قد عطّلنا نجاح الزيارة.
استغرق الاجتماع حسبما أذكر حوالي ساعتين في مناخ من الود والاحترام، ولكنه صريح. من واجبي الاعتراف بأنني استخدمت أنا القسط الأكبر من الوقت لأنه كان ضرورياً أن نتعمق بعض الشيء في عرض الحجج التي تدفعنا إلى اتخاذ مواقفنا، وبشكل خاص حول ثلاثة من النقاط.
يستحيل تكرار كل واحدة من تلك الحجج هنا. وإنما باختصار وجيز، وبالإجابات الأساسية.
قلت له بأنه لا ينبغي عليّ أن اتخذ القرار بشكل شخصي وعلى الفور، أو أن أقطع التزاماً بشأن بعض المسائل، ولا أن أعطي آمالاً زائفة حيال ما يمكننا اتخاذه من قرارات. وأن مسألة سجناء الضمير المزعومين التي يطبَّل لها كثيراً لم تكن إلا قصة قديمة بعد نحو أربعين سنة من كل أنواع المساوئ والجرائم من جانب حكومة الولايات المتحدة ضد كوبا. وعدّدتها له بإسهاب وتفصيل، مع مقارنتها بسلوك الثورة الذي لا تشوبه شائبة، وخلقيتها رغم سيل المشائن والافتراءات الموجهة لكوبا، والنفاق وازدواج أخلاق السياسة المتبعة ضدها، والظروف التي أجبرونا فيها على إيداع أشخاص في السجن. وأنه في معركة خليج الخنازير وحدها أسرنا 1200 غازياً، وأن الثورة نفسها أخذت منذ السنوات الأولى بالإفراج عن الذين كانوا قد حاولوا تدميرها، خدمة منهم لمصالح قوة أجنبية على مدى أربعة عقود من الزمن. وأن موضوع الذين يتواجدون في السجن لهذا السبب هو موضوع يتم استخدامه باستمرار من أجل الضغط على كوبا، البلد الذي يتعرض للعداء والعدوان الخارجي. والتهديدات الخطيرة التي ما زلنا نواجهها، كالأعمال الإرهابية المنظمة والممولة انطلاقاً من الولايات المتحدة.
لقد قال لي في إحدى اللحظات بأن رغبته هي الخروج من هذا الوضع لكي نعود إلى العائلة الكبيرة. قلت له بأننا أمريكيون لاتينيون، وسألته عمّا إذا كان الأمر يتعلق بعودتنا إلى العائلة الكبيرة أم عودة العائلة الكبيرة إلينا. أنهيت هذه النقطة بالرد عليه بأنه قد جاء بقائمة أشخاص هم مرتزقة بخدمة الولايات المتحدة وتدفع لهم الولايات المتحدة، وأنهم يحاولون تدمير الثورة بالتواطؤ مع الولايات المتحدة. وأن واجبي، كصديق، أن أقول له بأن تلك القائمة هي قائمة مذلّة بالنسبة لكوبا. كان حاذقاً في الشرح بأن هذه النية لم تكن مقصده، وأنه ربما قدّم القائمة في موعد مبكّر جداً لأوانها.
لم تكن كل الأمور ذات طابع مأساوي. فقد حصل بعض المزاح بل والنكات خلال المحادثة. هذا الجزء الذي ذكرته ببعض الإطالة، يمكنه أن يعطي فكرة عن حدة أول ساعة من المحادثة.
فيما يتعلق بتركيزه على العائلة القارية، قلت له بأن ذلك يسعدني جداً، ولكنني أفكّر أيضاً بالعائلة الكونية: أوروبا وآسيا وأفريقيا.
فيما يخص النقطة الثانية، معاهدة الأمم المتحدة حول الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لم أتردد في أن أقول له بأنه يمكننا أن نوقع جميع المواد باستثناء المادتين الثامنة والثالثة عشرة. فيمكن للأولى أن تكون جيدة جداً بالنسبة لبلد رأسمالي ككندا أو الولايات المتحدة أو وبلدان أمريكا اللاتينية، لأنه يحكم في بعضها رجال الأعمال أو القلة الغنية، وتحكم في بعضها الآخر الشركات الكبرى العابرة للحدود. وأنهم يعمدون هناك إلى تقسيم صفوف العمال وإلى التفريق، وعندما يستطيعون، يرشون ويُفسدون العمال، الذين لا حول ولا قوة لهم في وجه السلطة السياسية لأرباب العمل. قلت له بأن الأمر مرتبط باختلاف أنظمتهم الاقتصادية عن نظامنا.
فيما يطال هذه المادة من المعاهدة، التي يتم فيها القول بأن لكل شخص الحق بتأسيس نقابات والانضمام إلى النقابات التي يرتئيها، ملتزماً فقط باللائحة الداخلية للمنظمة ذات الصلة، من أجل رفع راية مصالحه الاقتصادية والاجتماعية وحمايتها، ليس من شأن هذا المفهوم في بلد اشتراكي ككوبا، حيث إن العمال اليدويين والمثقفين مؤطّرون جميعاً في النقابات ذات الصلة وهم موحّدين بقوّة كطبقة ثورية تتقاسم السلطة مع بقية أبناء الشعب والفلاحين والنساء والطلاب وأبناء الأحياء ومع المواطنين بشكل عام، إلا أن تنفع كسلاح وذريعة للإمبريالية من أجل محاولة تقسيم وشرذمة العمال ولإقامة نقابات مصطنعة، والحد من قوتهم ومن تأثيرهم السياسي والاجتماعي. إن استراتيجية الإمبريالية في الولايات المتحدة وفي بلدان كثيرة من أوروبا ومناطق أخرى هي تقسيم وإضعاف وإفساد الحركة النقابية لتجريدها من كل وسيلة تدافع بها عن نفسها في وجه أرباب العمل. وهدفهم الأساسي في كوبا هو التخريب وإثارة الاضطراب وإضعاف السلطة السياسية، والنيل من قوة ونفوذ عمالنا غير العاديين، والحط من قدرة المقاومة البطولية عند الدولة الاشتراكية الوحيدة في الغرب في وجه القوة العظمى التسلطية.
ولا يمكن أيضاً توقيع المادة الأخرى لأن من شأن ذلك أن يفتح الأبواب أمام خصخصة التعليم، التي أدت في الماضي إلى فوارق مؤلمة وامتيازات ومظالم مثيرة، بما فيها التمييز العرقي الذي لن يعود أطفالنا لمعرفته أبداً. فبلد استطاع خلال سنة واحدة أن يقضي على الأمية، وحقق مستويات تعليمية تصل إلى الصف التاسع كمعدل، ويتمتع بحركة ما فوق العادية وواسعة من الأساتذة والمعلمين، وهو صاحب النظام التعليمي الأكثر سلامة ونجاحاً في العالم، ليس بحاجة للالتزام بمثل هذه المادة.
قلت لكريتيان بأنه منذ 200 سنة وأمريكا اللاتينية تحاول القضاء على الأمية ولم تحقق ذلك بعد.
اقترح كريتيان بأن نوقع المعاهدة وأن نتحفظ عن المادتين. أجبناه بأنه في حالات مثل هذه يتم الحديث بعد ذلك عن انتهاكات للمعاهدة لا يعرف أحد أو يتذكر ماهية التحفظات التي وُقّعت بها. وأنه لا يمكن اللعب بذلك!
فيما يتعلق بالاتفاقية الخاصة بالألغام لم نتحدث كثيراً في ذلك الاجتماع. قلت له مسبقا بأننا لن نوقّعه. بل وأن للولايات المتحدة قاعدة عسكرية داخل أراضينا نفسها. وأن المنطقة الفاصلة بين حدّ هذه القاعدة وبين بقية أراضينا هي النقطة الوحيدة التي تُزرع فيها الألغام. وأن هذه تشكل بالنسبة إلينا سلاحاً دفاعياً ليس من شأننا ارتكاب خطأ التخلي عنه، وأنه ليس لدينا أسلحة نووية أو قنابل أو صواريخ ذكية، ولا وسائل أخرى كثيرة متطورة كالتي تملكها الولايات المتحدة. وأن بلدنا يذهب ضحية تهديد فعلي، ولهذا السبب لا نفكر بتوقيعه.
تعرض مجدداً لهذا الموضوع في وقت لاحق من زاوية لم يكن بوسعي أن أتصورها أو أتوقعها في تلك اللحظة. فعند انتهاء اللقاء الأول أكد لي، بارتياح واضح وبصدق، بأن النقاش كان رائعاً. إن إيجاز جوهر ما تم تناوله في اجتماعنا الأول يمكنه أن يولّد الانطباع بأنه كان نقاشا فظاً. وليس هناك شيء أبعد عن الحقيقة. فقد خيّم طوال الوقت مناخ حار وودي.
بدا لي بأنني فهمت بوضوح –مع أنه لم يقل ذلك، وإنما استشفيته من مجموع ما قاله السيد كريتيان- بأنه أمام حضور جارة بالغة الجبروت كالتي تتقاسم بلاده معها 8644 كيلومتراً من الحدود، كان يشعر بخوف على مستقبل بلاده. وأنه وعياً منه بالثقافتين والتراثين المختلفين والمتجذرين تماماً، كان يبعث عنده القلق ما يعنيه من خطر بالنسبة لوحدة الدولة أي طمع أو خطأ أو مجرد هزة تعيشها جارتها، فتذيب البلاد. فبالنسبة لهذا البلد الشاسع والغني، الذي لا يقطنه إلا 32 مليون نسمة، وحيث يتواجد ربع الاحتياط العالمي من المياه العذبة بين موارد أخرى –حسبما قال لي كريتيان نفسه-، تشكل الولايات المتحدة مصدر قلق حقيقي، وربما أكثر مما تشكله حتى بالنسبة لكوبا نفسها.
اللحظة الأهم ربما من المحادثة، والتي عرض فيها كريتيان فكرته الأذكى، والتي يمكن أن تبعث حتى عند المحدَّث البعيد كل البعد عن فكره حساً تضامنياً، كانت اللحظة التي ذكر فيها بأنه اعترض على فكرة إقامة اتفاق للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة وحدها. وأنه كان لا بد من البحث عن شريك ثالث على الأقل، وظهرت المكسيك، التي شاطرها المواقف في أحيان كثيرة في وجه سياسات الولايات المتحدة. وأنه في عام 2005 سيبلغ عددها 34، وليته يكون 35 (في تنويه واضح لكوبا)، من أجل تحقيق توازن مع الولايات المتحدة.
قال لي في إحدى المناسبات بأن كندا هي بلد غيور جداً على استقلاله بالنسبة للولايات المتحدة، وأن المحافظة على استقلالها عن الولايات المتحدة هو أمر بالغ الأهمية، وأن سياسته هي المحافظة على علاقات وطيدة وودية مع هذا البلد، ولكن مستقلة جداً. أكد لي بفخر بأن كندا قد أصبحت في تنافس مع وادي سيليكونا الكاليفورني، حيث يتم إنتاج كل التكنولوجيا المتقدمة.
الاجتماع الثاني مع كريتيان ووفده انعقد ليلاً. كانت هناك مأدبة عشاء وتبادل أوسع لوجهات النظر. في لحظة معينة، وعند ذكر خطة محاولة اغتيالي في جزيرة مارغاريتا، التي نظمها "المجمع" الشهير، أشار لي إلى أن هذا يشكل على نحو متكرر سبباً لصعوبات كبيرة، لأنه عندما وقعت حادثة الطائرات كان ذلك من أجل خلق مشكلة لحكومة الولايات المتحدة التي كانت جاهزة للقيام بخطوة إيجابية بالنسبة لكوبا. كلّمته عن قانون الضبط الخاص بالكوبيين ونتائجه المنافية للعقل والمنطق.
تكلمنا أيضاً عن قانون هيلمز-بيرتون. قال لي أنه فيما يتعلق بهذا القانون فإن الولايات المتحدة في حالة عزلة. وبأنه شخصياً هو أول من أدلى بتصريح عندما تم إقراره. وبأنه أثناء اجتماعه برؤساء الوزراء الكاريبيين، صاغوا معاً أول بيان ضد قانون هيلمز-بيرتون.
بالنسبة لحادثة الطائرات التي وقعت في عام 1996 وتم استخدامها كذريعة من أجل إقرار قانون هيلمز-بيرتون، قلت له بأن القصة شبه الكاملة لهذا الحادث منشورة في صحيفة "ذي نيو يوركر" (The New Yorker) الصادرة في 26 كانون الثاني/يناير 1998.
عندما سألني عن "منطقة التجارة الحرة الخاصة بامريكتين" (ALCA)، قلت له بأنه لا بد من التحلي بالصبر، ومعرفة ماذا سيحل في أمريكا اللاتينية عبر اتفاق التجارة الحرة هذا، وماذا ستكون عليه النتائج، ليس فقط بالنسبة لبلداننا، وإنما بالنسبة لبقية العالم، وكذلك المكائد لفرض اتفاق متعدد الأطراف للاستثمارات، وهي مسائل تبعث القلق الكبير عندنا. وبأنه من الضروري دراسة هذه القضايا بعمق. حدّثته عن جوانب محددة من اقتصادنا، وإجراءات تم اتخاذها من أجل مواجهة الفترة الخاصة؛ واستحالة التخلي عن الرسوم الجمركية بالنسبة لبلدان كثيرة من أمريكا اللاتينية وحوض الكاريبي، التي يتلقى بعضها عبر هذه الوسيلة حتى ما نسبته 80 بالمائة من دخول موازناتهم. وعندما سألته عما إذا كانت كندا تتضرر على نحو ما من الوحدة الأوروبية ونشوء اليورو، أجابني بالنفي، وبأن 82 بالمائة من تجارتها هي مع الولايات المتحدة. وقال لنا: "لدينا 1000 مليون دولار يومياً من التجارة مع الولايات المتحدة".
من جهتي قلت له رأيي بصراحة مفاده أن بلدان أمريكا اللاتينية يلائمها نجاح الوحدة الأوروبية وأن تتنافس أوروبا مع الولايات المتحدة على الأسواق والاستثمارات في أمريكا اللاتينية. وأنه لمن الأفضل أن يكون هناك قوتان اقتصاديتان أو ثلاثة أو أربعة قوى عظمى قوية لكي لا يعتمد الاقتصاد العالمي على بلد جبّار واحد وعملة واحدة.
بل وتحدثنا عن التكنولوجيا الكندية في مجال الطاقة النووية واحتمال أن يتمكن بلدنا في المستقبل من شراء مفاعل كندية، مع أنه حتى الآن ليس هذا بالنسبة إلينا الخيار الأفضل ولا الأكثر توفيراً بالنسبة للنمو السريع للتوليد الكهربائي الذي نحتاجه بدرجة معينة من العجالة.
وحدّثته أيضاً عن المكسيكيين الذين يموتون على الحدود مع الولايات المتحدة، وبأنه يموت سنوياً عدد أكبر بكثير من عدد الذين ماتوا على مدى 30 سنة من وجود جدار برلين.
قليلة هي المواضيع الهامة التي غابت عن حديثنا وتبادلنا لوجهات النظر.
في المناخ الملائم الذي أتيح ومع الأخذ بعين الاعتبار مشاركة كندا في الأحداث السياسية لهايتي، التي كانت قد عادت إلى طبيعتها، وحضور كندا في هذا البلد، قلت له بأن هايتي هي جار قريب وأحد البلدان الأفقر في العالم، له مؤشرات صحية مريعة، بما فيها مؤشرات الإصابة بداء الآيدز، تهدد بأن تتحول إلى كارثة إنسانية، وسألته عمّا يمنع إقدامنا على إعطاء مثال في التعاون وإعدادنا برنامجنا صحياً لهايتي. بإمكان كوبا أن ترسل الطاقم الطبي وكندا توفّر الأدوية والمعدّات اللازمة.
سألني عمّا إذا كنت قد بحثت الأمر مع رئيس هايتي. قلت له بأنه ليس بوسعي أن أعرض ذلك عليه ما لم أنسق أولاً مع الحكومة الكندية، معبراً له عن قناعتي بأنهم سيوافقون.
كلّمني عن اهتمامه الخاص ببلد ناطق بالفرنسية، فجزء هام من سكان كندا ينطق بهذه اللغة، وعليه فإن عنده اهتمام ببرامج لهايتي. وبأنه سيدرس الاقتراح. أبلغته بأنني سأتكلم مع الحكومة الهايتية.
يبدو بأن تلك الفكرة ولّدت عنده فكرة أخرى في الحال. فقد قال لي فوراً بأن عنده اقتراح يطرحه حول برنامج مشترك: برنامج مشترك مع أنغولا وموزمبيق من أجل إزالة الألغام المضادة للأفراد. وأضاف: تستطيعون أنتم أن تقدموا العمال، ونحن المال. وبأن هذين البلدين قد وقعا المعاهدة. وأفدناه من جهتنا بأن الذين يستطيعون القيام بهذا العمل هم العسكريون حصراً. أجاب بأننا نحن الكوبيين لدينا الطاقم ذو الخبرة ومن شأنهم هم أن يوفروا المال للبرنامج، فالميزانية من أجل ذلك قد تم إقرارها.
قال بأن عدة بلدان قد التزمت بتوفير أرصدة لتنظيف الحقول المزروعة بالألغام، ومن بينها اليابان والسويد ونروج وغيرها، وبما أن لدينا نحن الخبراء يعتقد بأنه يمكننا نحن الكوبيون القيام بهذا العمل.
مما لا شك فيه أنه لم يتنبه إلى مدى الجرح الذي يبعثه اقتراحه؛ مفاده تعاون إنساني تضع فيه كندا وبلدان غنية أخرى المال ونحن مخاطر التعرض للإعاقة والخسائر بأرواح جنودنا. ربما لم ينتبه، أو لم يكن واعياً لما يقترحه علينا، ولكنني شعرت بإحساس شديد بأنهم يريدون استئجارنا كمرتزقة.
أحسست على مدى بضع لحظات بالإساءة، وأنا أتذكر روح التضحية النزيهة، والتاريخ النظيف والنبيل لشعب واجه حرباً اقتصادية شديدة والفترة الاقتصادية الخاصة وهو على أتم الاستعداد للموت من أجل أفكاره. هل يمكن لأحد أن يستغل هذا الوضع من أجل إغرائنا بمهمات من هذا النوع؟
مع أخذ مزايا محدثي بعين الاعتبار، والنبرة اللطيفة والصريحة والواثقة، بل والفكاهة التي أذكر بأنها طغت على تبادلنا لوجهات النظر، ما زلت أعتقد بأن ما قاله والطريقة التي قاله بها لم يكن عملاً واعياً لما يمكن فهمه موضوعياً من كلامه.
شرحت له بأنه ما زال من الصعب إزالة الألغام في أنغولا لأنه تتواجد هناك العصابات التي تسلحها كل من الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا؛ وبأن هذه الألغام قد سلمتها الولايات المتحدة ونظام الأبارثيد لسافيمبي. وبأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى حالات إعاقة وخسائر بالأرواح. كيف سنبرر المشاركة الكوبية أمام شعبنا؟
بأكبر اتزان وتجرّد، اقترحت عليه ما وصفته أنا بأنه حل معقول: إننا مستعدون لتدريب كل الطاقم الذي تحتاجه أنغولا أو موزمبيق أو أي بلد آخر متضرر من مشكلات من هذا النوع لكي يقوم بهذه المهمة في أراضيه.
شغل هذا الموضوع كل القسط الأخير تقريباً من المحادثة الثانية، مع أنه استمر على مدى دقائق عدة بنفس النبرة الودية واللطيفة.
إن النقطة المزعجة كنا قد تناولناها على نحو هادئ وعقلاني؛ وتم الإصغاء إليها من طرف الوفد الكندي، وعلى ما يبدو، تفهمها وموافقته عليها.
كان قد تم الاتفاق من حيث المبدأ على أسس برنامجين هامين للتعاون مع بلدان ثالثة، على أن يتواصل العمل بهما لاحقاً.
لاحظت جيداً طبيعة وشخصية رئيس الوزراء الكندي. إنه رجل ممتع الحديث، ذو حس فكاهي، يمكن إجراء تبادل شيق لوجهات النظر معه حول مواضيع مختلفة. له اهتمام بمشكلات محددة من عالم اليوم ويدب فيه الحماس للمشاريع التي يفضّلها. يعرف الكثير من الشخصيات السياسية، ويعرف توظيف خبرته، ويتلذذ برواية حوادث طريفة هي، بشكل عام، ممتعة وفي مكانها. بدا لي ذا حس وطني صادق. إنه وفيّ جداً لبلده ويفتخر به. إنه مؤمن، درجة التعصب، بنمط الإنتاج الرأسمالي، كما لو كان ذلك ديانة توحيدية، وبالفكرة الساذجة بأن هذا هو الحل الوحيد لكل البلدان على حد سواء، في أي قارة كانت، وفي أي عصر ومناخ وإقليم من العالم كان. لقد تربّى على هذه الفلسفة. فلست واثقاً من قدرته على إدراكه بها وقائع عالم اليوم إدراكا جيدا.
تعرفت إلى تروديو، وهو رجل دولة استثنائي، ذو تواضع هائل وحس إنساني وفكر عميق، ورجل سلام؛ إني على ثقة بأنه استوعب عالم اليوم جيداً واستوعب كوبا أيضاً.
جرت بعد ذلك نشاطات أخرى. إني شاركت في حفل استقبال لكريتيان في باحة السفارة الكندية. كان سعيداً وشيق الحديث، وذا نفس راضية. بعد ذلك بوقت قصير كان سيجتمع بكلينتون. رافقته حتى المطار. حين أصبحنا على مقربة من [مطار] "بوجيروس" طلبت إليه أن ينقل التحية لكلينتون وأن يبلغه بأنه لا يوجد من ناحيتنا حس بالعداء تجاهه. كانت تلك الكلمات في غاية الدقة. لم تكن شيئاً آخر غير مجاملة للزائر. لكني دفعت ثمن ذلك باهظاً. فقد تلقيت بعد ذلك بمدة من الزمن رسالة من كريتيان بخط يده يذكر لي فيها بأنه قد نقل لكلينتون رغبتي بإقامة علاقات أفضل معه. لم يكن هذا ما قلته له بالضبط. ليست هذه الطريقة طريقتي؛ فهي لا تتوافق مع سلوكي على مدى حياتي. أمكن لذلك أن يبدو بمثابة رجاءً تافهاً لرئيس الولايات المتحدة الجبّار. عكفت على كتابة رسالة لكريتيان بخط اليد أيضاً أذكر له فيها بأن رسالتي لم تكن تلك الرسالة. كانت القضية محرجة. فلم يكن من السهل التوفيق بين شعوري بالاستياء وبين التعابير الدقيقة التي يجب أن أصيغها بها، وفي ذات الوقت يمكن للتوضيح أن يتحول بطريقة ما إلى نوع من النقد لصديقنا. نجحت تقريباً في ذلك، ولكنني تراجعت في نهاية الأمر عن الفكرة، بل واحتفظت بمشروع الرسالة، التي ربما أتمكن من العثور عليها في دفتر ملاحظات قديم، ونسيت القضية حتى هذا اليوم. فلم أتمكن ولا حتى من التعامل بالمثل مع بادرته الرقيقة وهي الكتابة لي بخط اليد. ربما ظنّ بأنني قليل التهذيب وغير قابل للتصويب.
مرت الأشهر ولم يأت أي خبر عن المشروع الهايتي، الذي لم يكن ينتظر من ناحيتنا إلا إجابة مقتضبة. جاء إعصار "جورجز". واجتاح سانتو دومينغو وضرب جارتها هايتي، التي لا تحميها إلا الجبال الدومينيكانية البالغ ارتفاعها 3000 متر، والقريبة من الحدود مع هذا البلد، والتي لعبت دور حواجز كاسرة للرياح، وتابع الإعصار طريقه لاحقاً إلى كوبا.
كانت ما تزال تدوي آخر هبّات رياح "جورجز" ، شمال غرب البلاد، ليلة الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر الماطرة، حين قلت في خطاب ألقيته في الجلسة الختامية للمؤتمر الخامس للجان الدفاع عن الثورة:
"إنني أسأل الأسرة الدولية: هل تريدون مساعدة هذا البلد، الذي تعرض للغزو والتدخل العسكري قبل وقت ليس بطويل؟ هل تريدون إنقاذ أرواح؟ هل تريدون تقديم دليل على الروح الإنسانية؟ فلنتكلم الآن عن الروح الإنسانية ولنتكلم عن حقوق الإنسان.
[…] نعرف كيف يمكن إنقاذ 25000 روحاً في هايتي كل سنة. من المعروف أنه يموت سنوياً 135 طفلاً ما دون الخامسة من العمر من بين كل ألف مولود حي.
[…]
انطلاقاً من مبدأ موافقة حكومة وشعب هايتي برحابة صدر على مساعدة هامة وحيوية في هذا المجال، اقترحنا بأنه لو أقدم بلد ككندا، التي لها علاقات وطيدة بهايتي، أو بلد كفرنسا، التي لها علاقات تاريخية وثقافية مع هايتي، أو بلدان الاتحاد الأوروبي، العاكفة على التكامل فيما بينها وأصبح لديها اليورو، أو اليابان، على توفير الأدوية، فإننا مستعدون لإرسال الأطباء لهذا البرنامج، كل الأطباء اللازمين، حتى وإن الزم الأمر لإرسال دفعة كاملة من الخريجين أو ما يعادلها هذا العدد.
[…]
ليست هايتي بحاجة لجنود، ولا بحاجة لغزوات جنود؛ ما تحتاجه هايتي هي غزوات أطباء من أجل أن تنطلق، وما تحتاجه هايتي أيضاً هو غزوات ملايين الدولارات من أجل نموها".
تشرين الثاني/نوفمبر 1998. مضت سبعة أشهر وليس هناك من أخبار من كريتيان عن المواضيع المطروحة. زار كوبا وزير الصحة الكندي، آلان روك. اجتمعت به. كان قد استقبل للتو في كندا الدكتورة نيكوسازانا دياميني-زوما، وزيرة الصحة الجنوب أفريقية. جاء ويغلب عليه الذهول مما روته له هي عن عمل الأطباء الكوبيين في القرى الجنوب أفريقية.
شرحت له بالتفصيل برنامج التعاون المشترك الذي نقترحه. لاحظت فيه رجلاً مرهف الإحساس وكفؤاً، يعي إمكانيات هذه البرامج وأهميته. طلبت منه حث خطى المساعي المتعلقة ببرنامج التعاون المشترك في هايتي، ورداً من كندا على ما اقترحته، ليس فقط على رئيس وزرائها شخصياً، وإنما علناً كذلك. تعهد بتقديم مشروع لرئيس الوزراء وللجهاز الحكومي.
في الرابع من كانون الأول/ديسمبر أرسلت كوبا ببادرة ذاتية فريقاً بصفة طارئة للعناية بضحايا إعصار "جورج". استمر توافد الفرق الطبية في الأسابيع التالية حتى وصل عددها إلى 12 وما مجموعه 388 متعاوناً، ولم تكن قد بدت على أصدقائنا الكنديين علامات تدل على وجودهم. البرنامج الطبي الذي سبق واقترحناه لتنفيذه بشكل مشترك مع كندا كان قد بدأ تطبيقه بجهود كوبا والحكومة الهايتية ودعم منظمات غير حكومية.
في نهايات شهر شباط/فبراير أبلغت وزارة العلاقات الخارجية الكوبية بأنها علمت من مصادر غير رسمية بأن حكومة كندا ستتبرع بِ 300 ألف دولار للبرنامج الطبي في هايتي، وهو نبأ بعث عندنا الكثير من الارتياح، كما هو منطقي.
في الرابع من آذار/مارس كان قد مر أكثر من عشرة أشهر دون أن يرد أي جواب رسمي من كندا. غير أنه في ذلك اليوم وصل نبأ يبعث الدهشة فعلاً. فقد أرسل وزير العلاقات الخارجية الكندي، السيد لويد أكسوورثي، رسالة إلى وزير العلاقات الخارجية الكوبي، روبيرتو روباينا، يبلغه فيها فيما يبلغه:
"[…] بلغتني أنباء عن قانون أقرته مؤخراً الجمعية الوطنية الكوبية، في السادس عشر من شباط/فبراير 1999، عنوانه ‘قانون حماية الاستقلال الوطني والاقتصاد الكوبي‘، يرمي إلى كبح تزايد الأعمال الخارجة عن القانون والنشاطات التخريبية".
[…]
"لقد طلبت من الموظفين لدي بأن يعدّوا دراسة عن الإجراءات الحديثة المتخذة من قبل كوبا، بما فيها الحكم على أعضاء في مجموعة عمل من المنشقين الداخليين قريب الصدور، بغية تحديد أثرها على مجموع النشاطات التي شرعنا بها انسجاماً مع ‘البيان المشترك‘ الثنائي. إلى حين إنجاز هذا التقييم، طلبت من الموظفين لديّ بأن يمتنعوا عن تنفيذ مبادرات مشتركة جديدة. سوف أكتب لزملائي في الجهاز الحكومي من أجل إطلاعهم على هذا الوضع لكي يمعنوا التفكير في برامج تعاونهم الثنائي مع كوبا. كإجراء لحظي، أوقفت الدراسة المشتركة من جانب دائرتي (الوكالة الكندية للتنمية الدولية) ومن جانب "هلث كندا" (Health Canada) بشأن طلب كوبا من أجل تنفيذ التعاون الطبي من بلد ثالث في هايتي".
[…]
ستكون الأيام المقبلة هامة لدراسة ما إذا كانت كوبا ستختار طريق التقارب والتكامل مع الأسرة الدولية أم أنها ستستمر بالاتجاه الغامض المتبع في الأيام الماضية. أرجو أن تكونوا حضرتكم قادرين على إعطاء إشارة تساهم بتوضيح نوايا كوبا. وخاصة أنه من شأن هذه الإشارة أن تكون بالغة الفائدة من أجل ضمان عدم تحوّل الأحداث الأخيرة إلى قلق لا أساس له في لجنة حقوق الإنسان في جنيف".
أهي مصادفة؟ أهي ذريعة من أجل تبرير ضغوط قوية من جانب جيرانهم الجنوبيين؟ أهو فقدان كامل للحس إزاء المأساة الهايتية؟ لا أود الإدلاء بأي تأكيد. ولكن، ما الذي يفسّر مرور عشرة أشهر دون أن يتم خلال هذه المدة إعطاء أي جواب رسمي، مع أنه لم تكن قد وقعت الأحداث التي يدعون بأنها دفعت إلى قرار بالغ الشدة وبالغ التعسف كهذا؟
حتى في الوقت الذي لا أريد فيه أن أسيء لأحد، ولا حتى لصاحب الرسالة العتيد، يستحيل الامتناع عن الإشارة إلى النبرة المتعجرفة والتسلطية والتدخلية والانتقامية التي صيغت بها هذه الرسالة.
أكثر ما بعث المرارة عندي أنا شخصياً ليست الإجراءات الانتقامية والتهديدات لكوبا-فقد تعودنا نحن على هذه العقوبات منذ أكثر من 42 سنة-، وإنما حقيقة أن الثلاثمائة ألف دولار، التي لا أعرف حتى الآن إن كانت دولارات أمريكية أم كندية –0.64 سنتاً من الدولار الأمريكي حسب سعر صرف يوم أمس 24 نيسان/أبريل، فالوقت لم يتسع لي لكي أراجع كم كان يعادل في 15 آذار/مارس من تلك السنة- لن تصل أبداً إلى المرضى الهايتيين. لم أكن أتصور بأن يكون عقابنا على حساب آلاف أرواح الأطفال الهايتيين الذين كان بالإمكان حمايتها، إذ كان يموت في ذلك البلد في تلك اللحظة ما لا يقل عن 25 ألفاً سنوياً، والذين كان يمكن منع وفاة معظمهم بواسطة حقن بسيطة يمكن شراؤها بتلك الدولارات، سواء كانت أمريكية أم كندية. أحد ما ارتكب خطأ كبيراً بدون شك.
كأمر منطقي أساسا، كنت قد صدّقت النبأ غير الرسمي الذي أبلغتني إياه وزارة العلاقات الخارجية. وفي هذه اللحظة لا يمكنني حتى التأكيد إن كان صحيحاً أم لا.
لم يعد هناك شيء نأسف عليه. يعمل اليوم في هايتي 469 طبيباً وعامل صحة كوبيون. خلال سنتين وخمسة أشهر، حتى شهر نيسان/أبريل، ذهب إلى هناك 861 متعاوناً دون أن يقبضوا سنتاً واحداً من الشعب الهايتي بدل خدمتهم. يعتنون بأكثر من خمسة ملايين و72 نسمة من بين عدد سكان البلاد البالغ سبعة ملايين و803230 نسمة؛ أي بِ 62 بالمائة من سكان هايتي. لقد أنقذوا الكثير من الأرواح وخففوا آلام مئات الآلاف أو أعادوا لهم صحتهم.
مع إقدام اليابان على توفير كل الحقن بمشاركة منظمة اليونيسيف، بدأت هذه السنة المرحلة الأولى من الحملة الواسعة للتطعيم ضد ثمانية أمراض يمكن الوقاية منها عبر التطعيم، حيث تتولى كوبا تنفيذ البرنامج عبر الطاقم الطبي الذي يتواجد في هذا البلد، والذين سيصل عددهم إلى 600 خلال العام الحالي. نعرف أيضاً بأنه، وعبر الجهد المشترك بين فرنسا واليابان وكوبا، يتم التحضير لحملة تطعيم في المستقبل ستسمح لهذا البلد أن يحقق خلال خمس سنوات مستوى من المناعة تبلغ نسبته 95 بالمائة.
بعد النصر الذي حققته كل من البرازيل وجنوب إفريقيا في وجه أسعار الأدوية المضادة لداء الآيدز البعيدة عن متناول اليد، أعتقد بأنه لم يعد بعيداً اليوم الذي سيصبح فيه الهايتيون محميين أيضاً من هذا الوباء المخيف عبر دعم حكومات مستعدة للتعاون بموارد مالية ومؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية.
ليست هايتي البلد الوحيد الذي يقوم الشعب الكوبي بالتعاون معه في برامج صحية في ظل نفس المبدأ. لقد أصبح عددها 15 حتى الآن. يتعاون في هذه البرامج 61 منظمة غير حكومية بمشاركة أكثر من 2272 عامل كوبي في مجال الصحة، بينهم 1775 طبيباً.
لم يعد بإمكان أحد أن يعطّل تعاون كوبا مع بلدان أخرى من العالم الثالث. إنها وقائع وليست مجرد كلام. ينبغي التحرك بسرعة وليس انتظار حلول أول الشهر اليوناني عندما يكون هناك بشر من بلدان فقيرة يموتون كل يوم وكل ساعة. فيقدم بلدنا دعماً خاصاً كذلك لتأهيل أطباء بروح تضحية وتضامن وتفان. إن التقدم أمر ممكن، وهزم الكوارث والتخفيف من ألم المأساة الإنسانية التي تضرب آلاف الملايين من الأشخاص، ليسا بهدفين بعيدي المنال.
أشعر بالامتنان اليوم لما أجريته من محادثات مع كريتيان. فقد نفعت هذه من أجل التحقق من أن المبادرات هي أمر ممكن وكذلك التعاون المشترك بمشاركة بلدين أو ثلاثة أو أكثر من ذلك. كما تثبت بأن الساعات التي قضيناها، أنا وإياه على حد سواء، لم تكن هباء، وقد اتّبعت أنا نصائحه بالعمل بتركيز أكبر على حقوق الإنسان، من أجل إنقاذ أرواح، ومحاولاً إزالة ألغام هائلة مضادة للأفراد تقوم بوضع عالمنا على حافة انفجارات هائلة.
إنها أمثلة صغيرة على ما يمكن أن يقدمه أي بلد صغير، وهي اليوم أهم من معاهدات هامة يحوّلها الأقوياء إلى حبر على ورق وإلى أعمال مزايدة كبيرة ومواقف دعائية بحثاً عن تلبية المآرب والأطماع الشخصية.
إنني على ثقة بأنه ما كان من شأن تروديو أن يقول بأنه قضى أربع ساعات وهو يسدي النصائح لأحد لم يطلبها منه، ولا أن يبحث عن مبررات لكي يستثني بلداً كريماً من اجتماع قمة، خاصة وأنه لم يطلب إدراجه ضمنها، لكي يوقّع اتفاقاً ليس من شأنه أن يوقعه أبداً؟
سيثبت التاريخ من هو الصائب (تصفيق)