ما لا يمكن نسيانه أبداً (الجزء الثاني)
القائد العام: عن أي عمر توفي والدك؟
جونكو واتانبي: عمره 98 سنة، ما زال حياً.
بودّي أن أعاهدكم، بمناسبة نقلي إليكم مشاعر أخي، الذي توفي، ونقل رسالة جميع الناجين، ولكي ينقل الجيل الجديد شهادتنا إلى الجيل التالي، بأن أواصل تقديم شهاداتي. شكراً جزيلاً (تصفيق).
القائد العام: أرجوكم أن تعذروني إن توجهت إليها ببعض الأسئلة، فالمسألة هي أننا مهتمّون بنشر كل ما روته هي، وبالطبع، إذا لم يكن لديكم أي اعتراض، سنقوم بنقل هذا اللقاء من خلال التلفزيون الوطني (تصفيق). نحن مهتمون جداً بأن يعرف الرأي العام عندنا كل ذلك، وليس بثه هنا فقط، وإنما بثه في بلدان أخرى، إيصال أنباء هذا اللقاء إليها. إنه لأمر بالغ الأهمية التعريف بكل ما حدث هناك، بغض النظر عمّا تم نشره وتصويره حتى الآن، وكل الأمور الجديدة التي تتكشف اليوم.
سأشرح لكم لاحقاً لماذا أتوجّه أنا ببعض الأسئلة، إضافة لتلك.
روت هي أنها كانت في مكان قريب، أنها كانت في الباحة مع شقيقها، عندما وقع الانفجار ونشأت سحابة الغبار. ومن خلال أشخاص آخرين ممن كانوا راشدين في تلك اللحظة، تعرف هي كم احتاج ذلك الغبار من وقت لكي يصل إلى الأشخاص الذين كانوا هناك.
جونكو واتانبي: نحو ثلاثون دقيقة، ولكن المسألة أنها لم تمطر في كل مكان، وإنما في النواحي التي يجرف الريح المطر إليها.
القائد العام: المطر. ولكن كان هناك مطر وكان هناك رماد.
جونكو واتانبي: الحقيقة أن مطر الرماد لم يكن له وجود، وإنما هو ذلك الغبار الممزوج بالمطر هو الذي وصل إلى حيث كانوا هم، لم يكونا منفصلان، وإنما كانا كلٌّ واحد، ممزوج بكل الأوساخ وكل الأشياء التي جرفها معه.
القائد العام: أولم يكن هناك سقف حيث كانت هي، هل كانت في الباحة؟
جونكو واتانبي: نحن كنّا على مسافة 18 كيلومتراً عن المكان الذي سقطت فيه القنبلة.
القائد العام: ثمانية عشر كيلومتراً؟
المترجمة: ثمانية عشر كيلومتراً.
القائد العام: هذا ما كنت سأسألك إياه، لأن هناك جسر، قيل بأنه الهدف الذي سقطت فيه القنبلة. هل كان على مسافة 18 كيلومتراً؟
هل كان والداك يتواجدان في مكان مسقوف؟
جونكو واتانبي: كانت أمي تحمل شقيقي الأصغر في الجزء الخارجي من المنزل، وأبي كان في هيروشيما، حيث كان يعمل ويعود ليلاً إلى المنزل؛ ولكن الغبار وصل إليه وهو في داخل مبنى. حتى أنه شاهد الطائرة التي كانت تحلّق فوق هيروشيما.
القائد العام: قبل أن تلقيها،
وأمك أصيبت بحروق أيضاً؟
جونكو واتانبي: لا. الحقيقة أنه في المكان الذي كنّا نتواجد فيه، على مسافة 18 كيلومتراً، ما وصل إلينا هو كل تلك الكمية من الأوراق المحروقة، تلك الموجة، تلك الريح التي وصلت إلينا، ولكن الاحتراق بحد ذاته، فإن ذلك لم نتعرض له.
لو أننا كنا على مسافة أقصر، أي على مقربة من محور الهدف، لا أظن بأنه كان سيُكتب لنا أن نتواجد هنا لنروي القصة.
القائد العام: حسناً.
أردت أن أروي لكم أنه قد زارنا مؤخراً باحث شهير جداً، وهو بروفيسور مرموق في جامعة روتجيرز، نيوجيرسي، وهو صاحب نظرية الشتاء النووي. هذا الأمر بالغ الأهمية بالنسبة لنا، لأن له صلة بالمخاطر الراهنة التي تواجهها البشرية وهناك الكثير من الأمور المجهولة.
قام هذا البروفيسور بزيارة بلدنا، وخلال اجتماع لعلماء أجرى عرضاً رائعاً لنظريته، وهي نظرية تحظى بأهمية كبيرة؛ برأيي أنه لا يمكن دحضها، وتتعلق بنتائج أي حرب نووية. لا تتحدث بالذات عن الدمار الذي تلحقه –وهو دمار لا بد وأنه هائل-، وإنما تحكي عن المخاطر التي يعنيها بالنسبة للبشرية، اندلاع حرب نووية إقليمية فحسب، وليس حرب كونيّة.
تنطلق النظرية من واقع اليوم، المختلف جداً عن تلك اللحظة التي أطلقت فيها أول قنبلة نووية، وتأخذ بعين الاعتبار الوضع السائد في هذه اللحظة، حيث يوجد 25 ألف قنبلة نووية في العالم. أتصور أن كثيرين منكم يعرفون هذه المعلومات. يقول العالِم أنه يكفي انفجار مائة قنبلة نووية لكي يحدث ما يصفه هو بالشتاء النووي.
يستند في نظريته إلى سلسلة من الأبحاث التي أجراها علماء أمريكيون وعلماء سوفييت قبل اندثار الاتحاد السوفييتي، حول الآثار التي يمكن أن يُحدثها عدد من القنابل النووية التي تنفجر في حرب ما. قدّر هؤلاء العلماء أن ما مجموعه مائة انفجار نووي هو عدد كافي للقضاء على الحياة البشرية على وجه الأرض، بشكل يجعل أي حرب تنشب، بين الهند وباكستان على سبيل المثال، بما تمتلكه كل واحدة منهما من قنابل، كافية للإجهاز على جنسنا.
برأيي أنه، رغم تمتعكم بما يكفي من المعلومات، نستطيع أن نزوّدكم بنسخة من محاضرة ألان بروك –وهو اسم البروفيسور التي قدمها هنا قبل أيام قليلة- وتحتوي على معطيات قيّمة جداً يمكنها أن تفيدكم لنشر ما تترتب عليه من عواقب، وليس فقط الضرر المباشر الذي تلحقه؛ الأسلحة المعاصرة بالطبع هي أشد فتكاً بكثير، وأكثر دقة بكثير، وهي أسرع بكثير. قدرة الأسلحة المتوفرة تعادل 440 ألف ضعف قوة أي من القنبلتين اللتين تم إلقاؤهما في اليابان فوق هيروشيما أو ناغازاكي. لقد جربوا الاثنتين، واحدة انطلاقاً من اليورانيوم وأخرى انطلاقاً من البلوتونيوم. كل هذه التكنولوجيات أصبحت موضع تحكّم ويتم استخدام الأسلحة بدقّة كاملة.
المعاهدات التي توصلت إليها القوتان العظميان لا قيمة لها عملياً، لأنها لا تترجَم بتقليص فعلي لعدد الأسلحة.
يدور في ذهني أنه لو أجرت منظمتكم اتصالاً به، وهو رجل كريم وعلى خلق رفيع، يمكنه أن يلقي عليكم محاضرة حول هذه المسألة.
أنا سألته عن الضباب، لأنه يشرح ويثبت بأنه كمحصّلة للانفجارات النووية، فإن كل شيء يشتعل؛ الخشب، وكل ما هو مشتق من النفط وغيرها أشياء كثيرة، كما يشرح هو، تشتعل، وحين تمتزج بالتراب، ينتج عنها تركّزات من الغبار. لقد درس كل شيء: ماذا يحدث لو وقع انفجاران أو وقع عشرة أو وقع مائة، ويضع حدوداً معينة. هذه السحابة من الغبار من شأنها أن تنتشر في العالم كلّه خلال مدة زمنية، أظن أنها لا تتجاوز الثلاثة أسابيع، ودرجة الحرارة يمكنها أن تنخفض إلى ما دون درجة التجمّد. يترتب عن ذلك، على سبيل المثال، ليلة تستغرق عدة أشهر، لا تسمح بعبور نور الشمس. فيندثر إنتاج المواد الغذائية وعواقب ذلك مريعة؛ أكثر من 6000 مليون شخص سيفتقدون للغذاء، هذا بالإضافة للبرد.
توجهتُ إليه بسؤال عندما انتهى من إجراء عرضه الذي استغرق ساعة، مستعيناً بخرائط ورسوم بيانية؛ فقد درسوا كل آثار انفجار البراكين؛ ودرسوا الكيفية التي ينتشر بها الغبار كلما وقع انفجار بركاني. بل وأن انفجاراً وقع مؤخراً في إيسلاندا، في أوروبا، تسبب بمشكلات بالغة الخطورة. كما درسوا أيضاً الحرائق الكبرى التي وقعت بصورة طبيعية، أو نتيجة حرب أو حادث. وسألته: "كم عدد الأشخاص الذين يعرفون هذه المعطيات في العالم؟". أجابني بأنه "لا أحد تقريباً". فقلت له: "وفي بلدكم، كم يبلغ عددهم؟" أجاب: "قليلون جداً". قلت له: "وكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة؟". وأضفت له أيضاً: "ربما يحتاج الأمر لجلب أخصائيين في علم النفس وفي مجالات أخرى في سبيل العثور على تفسير لهذه الظاهرة"، فقال لي حينها "أنا لدي إجابة: إن هذا اسمه نفي". وشرح ذلك بالقول أنه عند احتمال وقوع أمور مريعة، يرفض الناس فكرة التصديق بأن وقوعها هو أمر ممكن.
هذا التفسير الذي قدّمه هو يمكن أن يضاف له تفسير آخر، وله علاقة بوسائل الإعلام، احتكار وسائل الإعلام. الأمور التي تحدث في العالم بالرغم من الوسائل الحديثة المتوفّرة، من إذاعة وتلفزيون يتم التصرف بالمشاهد المصوَّرة بالطريقة التي تتتالى بها الأنباء، لكن لا يتم شرحها، والحقيقة أن كثير من أهم المشاهد المصوَّرة المتوفرة في العالم ليست معروفة، أو يتم تقديمها كأخبار من دون تحليل. يوجد حول هذا الموضوع كتب هامة جداً، عن احتكار وسائل الإعلام؛ فالحقيقة مخطوفة، ليست معروفة. إنهما ظاهرتان.
شرحتُ له بأننا لسنا متشائمون في ما يتعلق بإمكانية خلق الوعي. أقول لكم: يمكن خلق وعي أو عدم خلقه. طبعاً، إذا لم تكن الجماهير تعرف القراءة ولا الكتابة فلا يمكن ولا حتى محاولة ذلك؛ وإذا كان المجتمع يتمتع بمستوى من المعارف كالذي يتمتع به المجتمع الياباني، فإن وسائل الإعلام نفسها، ليس الورقية فقط، وإنما المحكيّة، وبالمشاهد، وبالموسيقى، وبمظاهرات أخرى، يمكنها اليوم أن تخلق وعي.
أقول لكم بأن هذا ما كان عليه حال كوبا. لو لم يكن الناس يعرفون القراءة والكتابة... ماذا يستطيع أن يفعل شخص لا يجيد القراءة ولا الكتابة؟ إذا كانوا قد وصلوا أم لا إلى الصف السادس؛ وإذا كانوا قد تخرجوا أم لا من المرحلة الثانوية؛ وإذا كان مئات الآلاف يجتازون الدراسة الجامعية؛ وإذا كان لديهم أساتذة جيدون؛ تنجم ظواهر مختلفة. الثورة لم تدافع عن نفسها بالقوة، دافعت عن نفسها بالمعارف، بالوعي. كيف أمكن لبلد صغير ككوبا، أن يقاوم خمسين سنة من الحصار والمضايقة؟ كانوا يظنّون أن بإمكانهم إركاع البلاد، أو أن بوسعهم خداعها، ولكنهم لم يتمكنوا. وبرأيي أن ذلك كان برهاناً على أنه يمكن خلق الوعي، لأنه إذا تخلينا عن الفكرة القائلة بأنه يمكن خلق الوعي، فماذا سيكون عليه نشاطكم أنتم؟ فأنتم تجولون العالم وتشرحون، وتحملون إليه أشخاصاً عرفوا ما حدث عن قرب، فيروون وقائع تفتت القلوب في الحقيقة. وأنا أفهم بشكل أفضل ما تفعلونه، لأنكم تحسّون به، وتحملون أشخاصاً عاشوها، ولديكم المشاهد، ولديكم الكثير من الأمور.
لقد ذهبتُ إلى هيروشيما. زرت هناك المتحف. وقد شرحوا لي كل شيء هناك: من قاوَم وتحمّل، ومن لم يقاوم ولم يتحمّل؛ وأحد المشاهد المذهلة للمأساة البشرية هي صورة الأطفال الذين لم يكونوا قد وُلدوا بعد، أمهات حوامل قبل موعد ولادتهن بشهر واحد أو شهرين أو ثلاثة أشهر؛ تلك المشاهد بقيت محفورة هناك ولها أثر كبير؛ وأظن أن هناك مواد تسمح بتحقيق الغاية المنشودة. بوسعي القول أنه يتوفر اليوم وعي أكبر بكثير، ولكن الأمر يحتاج لما يزيد عن المتوفر بكثير. والواقع الفعلي هو أن البشرية جمعاء مهدَّدة اليوم بالتعرض لشيء رهيب كالذي رويتموه أنتم هنا، بل وأكثر رُعباً منه بكثير، لأننا سمعنا ذلك من الأشخاص الذين كانوا متواجدين في منطقة سقوط القنبلة الأولى، ألمهم على الأشخاص الذين قضوا هناك، الأشخاص الذين احترقوا، الذين أصيبوا و أصابتهم الإشعاعات وعاشوا أكثر من خمسين سنة. في الواقع أنها مرت 65 سنة على إلقاء تلك القنبلتين، واليوم يهدد الآلاف منها، وأشد قوة وأكثر دقة منها، البشرية.
يؤكّد العالِم النظرية التي تقول بأنه كلّما زاد عدد الأسلحة النووية التي يمتلكها بلد ما، كلّما تدنّت أكثر إمكانيات هذا البلد في السلام والأمن. هو من دعاة القضاء على كافة أنواع الأسلحة النووية. وأنا أذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بقليل. أظن أنه إذا تم القضاء على الأسلحة النووية ولم يتم القضاء على الأسلحة التقليدية، فإن الحال سواء تقريباً.
القدرة التدميرية عند هذه الأسلحة التقليدية هي اليوم هائلة. فقنبلة بأجزاء من التنجستين، محمولة في رأس ثقيل، ومن دون استخدام طاقة نووية، تكتسب قوة في الفضاء تصل إلى 25 ألف كيلومتر في الساعة، أي أكثر من سُرعة الصوت بعشرين مرة؛ ثم تنخفض بعدها إلى ما لا يقل عن عشرين ألف كيلومتر. المنطقة بأكملها الواقعة تحتها تتعرض للدمار الكلي. لا تبقى قيادة أركان، ولا تبقى حكومة، ولا يبقى شيء من المرمى المستهدَف. لقد تم نشر ذلك، وتم شرحه. الحرب العالمية الماضية كلفت أرواح خمسين مليون شخص، ضحايا أسلحة تقليدية، من دون إدراج ضحايا القنبلتين النوويتين وأضرارهما البشرية، حيث تسببتا بمقتل أكثر من 150 ألف شخص وعددا أكبر من هذا من الأشخاص تعرضوا لحروق وإشعاعات وغيرها كثير من الأضرار. الدمار والجوع والأمراض أصابت جزءاً كبيراً من العالم في تلك الحرب. إذا ما وقعت حرب عالمية أخرى فإنها ستكون الأخيرة، فلا يمكن وجود واحدة أخرى بعدها.
أينشتاين نفسه أكد ذلك بقوله أنه لا يعرف كيف ستكون عليه أي حرب عالمية أخرى في العصر النووي، ولكن الحرب التي تليها ستكون بالعصي والحجارة.
كنتُ قد أحضرت رسالة بعث لي بها روبوك، العالِم المذكور، رداً على سؤال وجهته إليه بعدما كان قد أصبح في المطار في طريق عودته إلى بلاده. كان قد نقل في محاضرته بعض المعلومات عن كوكب المريخ؛ اتصلت هاتفياً وسألته من أين يمكنني الحصول على المزيد من المعلومات عن هذا الكوكب. شرح لي أن للمريخ غلافاً جوياً، وهو أمر كنت أنا أجهله، نظراً لضيق سماكته. وعدني بأن يرسل لي المزيد من المعلومات.
بعد ذلك بيومين أو ثلاثة قام بإرسالها.
"للمريخ غلاف جويّ أقل سُمكاً بكثير من سمك الغلاف الجوي الأرضي، بنسبة 7 بالمائة فقط من الهواء... يعادل كثافة هواء الأرض على ارتفاع 21 كيلومتراً".
ويضيف أن "الغلاف الجوي للمريخ يتكون، بمجمله تقريباً، من ثاني أكسيد الكربون".
ما سبق له صلة بما نحكي عنه الآن: آثار الانفجارات النووية. عواقبها بالنسبة للمناخ. ماذا قيل عن البيئة؟ ماذا قيل عن التغير المناخي؟ هل أن هذه المشكلة الخطيرة غير موجودة يا ترى؟ هل أنه لم يتم إجراء بحوث حولها؟ هل أنه لا وجود لفيلم سينمائي شهير تم تنفيذه بالتعاون مع أبرز العلماء حول التغير المناخي وآثاره على الأمطار والاقتصاد وحياة البشر؟ لقد تم بحث ذلك كمشكلة ثانية في التغير المناخي. أي أنه لا حاجة لانتظار وقوع حرب نووية لكي تندثر الحياة من على وجه الأرض. هكذا كما أقول لكم، لكي تندثر الحياة من على وجه الأرض.
يقوم اقتصاد الأمم وحياتها اليوم على استهلاك المواد الأولية غير المتجددة، ومن بينهما، الأهم هو النفط، وهو مادة أولية نُستهلَك بوتيرة 100 مليون برميل تقريباً في اليوم.
ولنأخذ بعين الاعتبار أن النفط احتاج مئات الملايين من السنين ليتكون انطلاقاً من مادة حيّة.
400 مليون سنة تقريباً هي المدة الزمنية التي لزمت لكي يتكون النفط والغاز والفحم. خلال أي مدة يقوم الإنسان باستهلاك النفط الذي راكمته الطبيعة على مدار 400 مليون سنة؟ لقد استهلك البشر خلال 130 سنة بالكاد ما يزيد عن نصف كمية هذا الوَقود، الذي ينطوي استهلاكه أيضاً على آثار هائلة مضرة بالبيئة. ثاني أكسيد الكربون، بالغ الوفرة في الغلاف الجوي لكوكب المريخ، هو بالذات ما ينتج عن استهلاك النفط. إنها عوامل يتعيّن على البشرية معرفتها ومواجهتها وحلّها. إنه ثمن وجودها.
لا يستطيع سكان العالم أن يتكاثروا بلا حدود، إذ أن الكوكب الذي نشأنا ونعيش فيه له حدود. إذا لم تخنّي الذاكرة، يقدَّر أن عدد السكان سيبلغ عام 2050 أكثر من تسعة آلاف مليون نسَمة. قبل مائتي سنة فقط، بالكاد كان يصل عددهم إلى ألف مليون. عواقب ذلك بالنسبة للمياه والغذاء والطاقة والمواد الأولية هي في الواقع ما فوق العادية.
اليابان هي بلد ذو مساحة محدودة جداً بالنسبة لعدد سكانه، يصل عدد سكّانه اليوم إلى نحو 130 مليون نسَمة، حسب معرفتي؛ هناك تأكيدات بأنه البلد صاحب أعلى معدّل في أمل الحياة وذو ثقافة رفيعة، وأن عدد سكانه سيحدَّد في ما يزيد عن 100 مليون نسَمة بقليل. بعد ذلك يمكن تحقيق الاستقرار في عدد السكان.
هناك بلد مجاور لبلدكم، وهو الصين، يطبّق سياسة صارمة في تحديد النسل؛ ولو أن الصين لم تعتمد هذه السياسة، لبلغ عدد سكانها اليوم ثلاثة آلاف مليون نسَمة. في الصين والهند يتواجد نحو نصف سكان المعمورة.
إنها وقائع. ويجب على الأشخاص أن يتمتعوا بالجرأة على مواجهة الوقائع ومعرفتها، كما أنتم فاعلين في ما يتعلّق بالعواقب المريعة للانفجارات النووية. الذين يتولّدون اعتباراً من اليوم يجب أن تتوفّر لهم شروط ضرورية، والاستمتاع بحياة طبيعية وبقدر ما أمكن من الكمال. وليس هذا ما يحدث حالياً. يموت سنوياً ما بين ثمانية وعشرة ملايين شخص بسبب الجوع وانعدام العناية الطبية. من يتكلّم عن ذلك؟ بعض العلماء وبعض السياسيين. بالكاد يتم الحديث عن هذه الأخبار؛ فالشركات الكبرى العابرة للحدود لا يهمها هذا الموضوع.
لقد عرفت أنكم، وخلال هذه الرحلة نفسها، قد طلبتم منّا إرسال طبيب ذي تجربة أممية، وليس أحدٍ يفكّر بأن يكون كذلك. من هؤلاء الأطباء الكوبيين يوجد الآلاف في العديد من البلدان. من المؤكد أنكم ستندهشون إذا عرفتم ما يستطيع بلدنا الصغير أن يفعله من أجل شعوب أخرى، على سبيل المثال. وما أؤكده ليس بمهام غير قابلة للتحقيق.
ماتسومي ماتسومورا: أيها القائد العام، ما أريد أن أقوله لكم من جانبنا، أن حضرتكم ذكرتم الأممي...
القائد العام: وهل هو هنا؟
ماتسومي ماتسومورا : نعم.
القائد العام: أين هو؟ يستطيع أن يرفع يده.
دعني أرى إن كنت أشاهدك بشكل أفضل.
قيل لي أنك كنت في هايتي أليس كذلك.
ماتسومي ماتسومورا : السيد الدكتور ليفان توريرو، الذي عمل كثيراً في خدمة سكان هايتي بعد الإعصار، دعوناه إلى سفينة السلام لكي ينقل إلينا تجربته هناك في هايتي. ولدينا أيضاً إلى جانبه خوسيه رامون، راقص الصالصا، ومن المهم بالنسبة إلينا التعرف إلى ثقافته؛ أظن أنه نوع من الرقص التقليدي، وقد تعلّمنا نحن الكثير عن رقصة الصالصا.
الحقيقة أننا نشعر بعميق الامتنان على توجيه هذه الدعوة إلينا. شكراً جزيلاً، أيها القائد العام (تصفيق).
القائد العام: أهنئك، وشكراً جزيلاً. لقد ذكرتك لأنني أعرف المهمة التي تقومون بها وكنت سأذكر حال هايتي كدليل على ما يستطيع أن يحققه الوعي.
في بوليفيا نفسها يوجد اليوم نحو ألفي طبيب، وهم يتواجدون في أماكن مختلفة. وفي إكوادور، البالغ عدد سكانها 15 مليون نسَمة يقوم أطباؤنا بالاستقصاء وتوفير العناية لكل أولئك المعاقين لأسباب جينية أو لأسباب أخرى، فتولّدوا كفيفين أو بلا قدرة سمعيّة. عندما لا يتمكن طفل من السمع، يصبح أخرساً؛ فإذا لم يسمع الأصوات، لا يستطيع تقليدها. هناك مشكلات كثيرة توجد لها حلول باستخدام جهاز ما، وعبر وضع سمّاعات لهم يستطيعون الكلام والتواصل.
إذا ما وُلدوا كفيفين وصمّاً فإن الوضع يضحي أكثر تعقيداً. كيف تكون عليه حياة شخص كفيف أو أخرس، لم يسمع ولم يرَ في حياته أبداً؟
أعرف نتائج المزدرع الحي القوقعي وكيف يتعلمون السمع والكلام والإصغاء للموسيقى ومعرفة العالم؛ وتتبدل حياتهم.
أعتقد أن من واجب المجتمع توعية الآباء، ومحاولة التنبيه من المخاطر؛ وأنه في حالات معيّنة لم يكن يتعيّن عليهم التناسل. برأيي أن كل كائن بشري يولد يجب أن يأتي إلى العالم بكل قدراته الكامنة. إذا ما تولّدوا بعاهات حيوية غير وراثية لأي سبب من الأسباب، يجب فعل كل ما يمكن فعله في سبيل إغناء حياة هؤلاء الأشخاص. وأولئك الذين لا يمكن تغذيتهم، وأولئك الذين لا يمكن تعليمهم، أولئك الذين لا يستطيعون التمتع بحياة طبيعية، حياة يستحق الأمر عيشها، لا يتعيّن تكوينهم، بكل بساطة.
أعرف أن الجميع لا يفكّرون بذات الطريقة بالضبط، فهناك تأثيرات دينية، وأنا أحترم كل ذلك؛ ولكنني أعبّر بصراحة عن رأيي ولماذا. بالنسبة للجنس البشري، يتعلّق الأمر في الوقت الراهن بالمشكلة الشهيرة "يكون أو لا يكون"، إن كان هذا الجنس البشري سيحافظ على بقائه، وهو الجنس الذي أنزل الكثير من الضرر بباقي الكائنات الحيّة. منذ أن نشأ الكائن البشري قلبَ كل شيء رأساً على عقِب، وقد شكّل الذكاء حتى الآن كارثة بالنسبة للطبيعة، ويمكن عبر الأسلحة النووية قيام مشكلة تبلغ من الخطورة ما بلغه ذلك الكوكب الذي سقط –حسبما يقال- في برزخ تيهوانتيبيك في المكسيك، قبل عشرات الملايين من السنين وأحدث شتاء طويلاً.
لم يقم أي جنس آخر بمثل هذا الفعل، بل حافظ على التوازن مع الطبيعة على مدار آلاف الملايين من السنين، نحو أربعة آلاف مليون. الإنسان جديد. نشأ هذا الكائن الذكي قبل أقل ما مائتي ألف سنة –في ما يتعلق "بالذكي"، أظن أنه أمر قيد الإثبات، إذا لم يثبت بأنه قادر على المحافظة على وجوده. اعذروني على قسوتي بعض الشيء على افتقارنا للتفكير السليم. الشيء الوحيد الثابت حتى يومنا هذا هو أنه لا يوجد أدنى دليل على أنه قد سبق وجوده وجود جنس آخر.
في نهاية المطاف، كل هذه المشكلة مترابطة فيما بينها، وبرأيي أنه يجب ربطها ببعضها في سبيل كسب المعركة التي لا بد وأن تكون هدف البشر. آنذاك ربما يكون بالإمكان إبداع أشياء رائعة كثيرة.
كم يبلغ ما في هذا العالم من أشخاص مؤهلين علمياً ومن العباقرة؟ ثمانون بالمائة من مهندسي الولايات المتحدة يشتغلون في الميدان العسكري وفي ابتكار الوسائل والعلوم الرامية للتدمير والقتل، وذلك بفضل نظام غادِر أدى بهم إلى هذا المصير.
طموحنا هو أن يحقق الأشخاص مستويات علمية رفيعة. من قبيل الصدفة، أثناء مجيئي إلى هنا، تناولت نشرة إخبارية وقرأت أحد الأنباء الواردة فيها، ويشير إلى أن كوبا تحتل المكان الأول في العالم من حيث نسبة الطلاب المسجَّلين في مراكز تعليم عليا. فنزويلا تحتل المكان الخامس؛ والأمكنة الثاني والثالث والرابع تحتلها جمهورية كوريا وفنلندا واليونان؛ أما الولايات المتحدة فتأتي وراءنا، في المكان السادس.
لقد ذكرتُ الطبيب لأن هؤلاء الرجال والنساء –ومعظمهم من النساء- يعملون اليوم في بوليفيا وفي نيكاراغوا وفي فنزويلا وفي بلدان كثيرة من العالم الثالث. لكن، لماذا؟ يدهشني ذلك: يأتون لقضاء إجازة لمدة 15 يوماً، على سبيل المثال، وتراهم توّاقين للعودة إلى أماكن عملهم، مشتاقين لمرضاهم. لا بدّ من سماع المرضى وما يقولونه. إنه نتيجة الوعي، فهذا الشيء لم يتم اقتناؤه من أي مكان ما، ولا يصنعه المال.
المهمة التي يقوم بها الرفاق في هايتي ناتجة عن الوعي. لهذا أتجرأ على الحديث عن الوعي، لأنني رأيت بأن الوعي قد مكّن من الثورة، مكّن من المقاومة، بغض النظر عن الانتقادات التي يوجهونها إلينا ومن الأخطاء التي يمكننا ارتكابها، فليس هناك من عمل إنساني كامل. لا يراودنا أدنى حرج في الحديث عن أخطاء، لأن ما لا يمكن عذره هو ما يتم فعله عن وعي في إلحاق الضرر بالآخرين.
ليس هناك من عمل إنساني كامل، ولكننا نؤمن بهذا العمل، ولو لم نكن مؤمنين به لما كنّا نقوم بما نقوم به اليوم، ولا ما تقومون به أنتم بدرجة عالية من النبل.
أعتذر لشغلي الكثير من وقتكم.
يُتبع غداً...
فيدل كاسترو روز
25 أيلول/سبتمبر 2010
الساعة: 12:14 ظهراً