الخطاب الذي ألقاه رئيس جمهورية كوبا، د. فيدل كاسترو روس، في المنبر المفتوح للثورة، الذي أقيم في بلدة بويه أرّيبا، محافظة غرانما. ويحتوي على بعض المعطيات التي أضافها صاحبه لاحقاً، وتتعلق بشكل أساسي بالمعارك في وجه الهجمات الأخيرة لقوات النظام المستبدّ والهجوم النهائي للجيش الثائر. 30 آذار/مارس 2002، "عام الأبطال أسرى الإمبراطورية"
التاريخ:
يا أبناء وطننا الأعزاء في بويه أرّيبا وغرانما وكوبا كلها،
شاءت الصدفة أن تتحول إلى حقيقة بشكل متزامن خلال الأيام الأخيرة أربعة برامج هامة للثورة، جاءت ثمرة معركة الأفكار التي نقوم بخوضها.
إن لهذا المهرجان معنى رمزياً ما فوق العادي في الواقع بالنسبة لنا جميعاً، بالنسبة لجميع أبناء المحافظات الشرقية، وبالنسبة لكل البلاد.
البرامج التي ذكرتها، وحسب الترتيب الذي تم فيه افتتاحها في غرانما، هي: أولاً، إنجاز وبدء عمل مدرسة مانسانيجو للفنون التشكيلية، التي تحمل اسم رسّام ورجل فكر عظيم، كارلوس إنريكيز، ولم يكن من السهل اختيار الاسم، لأن الرسامين العظام كثيرون ويزداد عددهم يوماً بعد يوم؛ ثانياً، برنامج التأهيل التكاملي للشبان (هتافات)، الذين أصبح عددهم يبلغ نحو ثمانين ألف شاب كوبي؛ ثالثاً، برنامج إقامة وفتح قاعات فيديو في تلك المناطق الريفية التي لا تملك أي نوع من الطاقة الكهربائية؛ رابعاً، البرنامج العملاق لإقامة مختبرات، أو، في حال المدارس الصغيرة، أجهزة كمبيوتر لتعليم تقنيتها في المستوى المتوسط العالي وفي المدارس المتوسطة وفي كل المدارس الابتدائية، بما في ذلك مرحلة الروضة.
لا أعرف إن كان يوجد بلد آخر في العالم تمكن من تحقيق برنامج بهذا الاتساع وهذا الحجم في تعليم الكمبيوتر، ومن المؤكد أن الأطفال أبناء الروضة والمرحلتين الابتدائية والمتوسطة من هذه البلدية الجبلية يتلقون هذه الدروس –لا أدري إن كان لديكم هنا مركزاً للتعليم المتوسط العالي-؛ وحالما وُجد في هذا العالم بلد استطاع تطبيق برنامج يبلغ ما يبلغه هذا من الاتساع والدقة، ما يمكن تأكيده بكل ثقة هو أن أحداً لم يفعل ذلك وربما لن يستطيع أحد أن يفعل ذلك أبداً خلال ثمانية أشهر (هتافات: "عاش فيدل")، بما يشمل تأهيل الطاقم التعليمي وتوفير أكثر من 12 ألف فرصة عمل كريم، سيحقق أصحابها عرفاناً اجتماعياً كبيراً في السنوات القادمة، وذلك بالقدر الذي يبدأ هذا البرنامج بإعطاء ثماره وبالقدر الذي يكتسب فيه هؤلاء الآلاف من الشبان الذين يقومون بالتعليم مزيداً ومزيداً من المعارف (تصفيق).
وشاءت الصدفة أيضاً أنه قبل ساعات قليلة من مغادرتنا باتجاه مانسانيجو، تم في هافانا إعلان حدث آخر ما فوق العادي: القضاء على فيروس حمى الضنك (هتافات) وتقليص مخاطر فيروس الآيديس أيجيبتي (Aedes aegypti) إلى صفر تقريباً.
يمكن قول الكثير عمّا تعنيه هذه البرامج. فعندما أتكلّم عن مدرسة الفنون التشكيلية التي تم افتتاحها في مانسانيجو، إنما هي واحدة من بين سبع تعكف الثورة على إقامتها خلال العام الدراسي 2001-2002؛ ومن بين هذه المدارس السبع تم إنجاز اثنتين، وهناك أربعة ستُنجز قبل حلول شهر أيلول/سبتمبر القادم، مع أنه بدأ نشاطها في بعض الأمكنة المؤقتة، ولكنها ستتمتع بالمباني الملائمة في الموعد المذكور، وربما تكون المدرسة السابعة جاهزة قبل نهاية العام الحالي. يضاف إلى ذلك إعادة بناء وتوسيع مدارس أخرى من هذا النوع، ستضاعِف بمجموعها عدد طلاب الفنون التشكيلية الذين يتأهلون اليوم في المدارس الحالية.
إنني أتكلم عن الفنون التشكيلية، لأنها ما يمثل في هذه الحالة حركة عملاقة أخرى، وهي الانفجار الثقافي الذي تشهده بلادنا ويعبر عن نفسه بمجالات فنية وفكرية أخرى. إننا نشاهد ذلك في كل المنابر المفتوحة، عند أطفال وفتية وشبان، وعند كل المواطنين، وهو ما أثبته المعرض الدولي للكتاب الذي أقيم مؤخراً، الذي كان عبارة عن حفلة شملت كل كوبا في 17 من مدنها الرئيسية، وهي ظاهرة لا يمكن رؤيتها أيضاً في أي بلد آخر. إنه التعبير عن الحركة في الرقص والموسيقى والمسرح وغيرها من فروع الفن والفكر في بلدنا.
وزيرنا للثقافة شرح ذلك عند افتتاح مدرسة مانسانيجو عندما عبّر بأنه قد تم عملياً مضاعفة عدد الذين يرتادون إلى قاعات المسرح والمتاحف والحفلات الموسيقية وغيرها؛ ونلمس ذلك هنا في بلدية غرانما. ولا نشاهد ذلك عند أطفالها الخطباء فقط، الأمر الذي يشكل تعبيراً عن القدرة الفكرية والفنية بسبب ما يلاحَظ من سهولة في الكلمة، وبسبب الخطابات التي لا يكتبها لهم أحد، إنما يكتبونها هم. في كم مكان من العالم يمكن رؤية ما عليه أطفالنا من ناقلين للرسالة؟ إننا نرى ذلك عند الذين يأتون إلى هذا المنبر لإلقاء الشعر أو لأداء الرقص أو عند الذين يأتون للغناء أو الثنائي من المغنين، وهما الاثنين اللذين أدّيا لنا عرضهما الرائع. إنه أمر يزهر في كل مكان، وبالكاد نحن في بداية الطريق.
لا حاجة للمرء بأن يسأل من أين أتى هذا الطفل، من أين أتت هذه الطفلة، من أين أتت هذه الفرقة، من غنّى هنا. لا، لم يأتوا من الخارج، لم يأتوا من العاصمة؛ إنما هم أتوا من محافظة غرانما (تصفيق)، واحدة من أقل المحافظات تطوراً اقتصادياً، أو أتوا من البلدية نفسها، حيث يقام منبر كهذا المنبر الجميل، مثلاً؛ وأنا لا أقصد المنبر الذي أقف عليه، وإنما أقصد المنبر العظيم الذي أراه من هنا في هذه الساحة، حيث هو الشعب (هتافات)، الذي غطى هذه الساحة بأكثر من 25 ألف مشارِك، في حين كان المتوقع أن يشارِك 15 ألفاً. سعيد هو حظ الذين يستطيعون أن يشاهدوا عبر شاشات التلفزيون ما أراه أنا من هنا، فأنتم لا تستطيعون رؤية أنفسكم، لا تستطيعون مشاهدة صورة الشعب هذه، وصورة الرايات، والحماس، والروح الثورية؛ بالكاد تستطيعون رؤية تلك البيارق والأشجار والتلال والجبال التي تشكل خلفية لنا، على اليمين وعلى اليسار (تصفيق وهتافات).
عن البرامج الأربعة التي ذكرتهما لكم هناك القليل جداً مما يمكن إضافته، فأشياء كثيرة قد تم قولها؛ إذا أردت أن أضيف شيئاً فهو أنه يشرّفنا جداً تواجد 81 رساماً ونحاتاً وفناناً تشكيلياً من أبرزهم في البلاد وفي المحافظات الشرقية، بما فيها كماغويه (تصفيق)، وليسوا أكثر من نموذج عما يوجد في كوبا كلها. تلاحَظ روح جديدة، نسمة سعادة عند فنانينا، عند مفكّرينا. في المدرسة الجديدة رسموا لوحات جدارية وتركوا ذكريات؛ فلوحظت هناك مؤسسة مدرسية بكل الموارد وأحدثها، حيث سيتلقى أبناء العمال والفلاحين والشعب البروليتاري عامة، الذين ينتجون السلع المادية والفكرية والخدمات الحيوية للبلاد، تعليماً ما فوق العادي بدون شك (تصفيق). يشكل هذا دافعاً عميقاً للارتياح، وستحظى كل واحدة من المدينتين الرئيسيتين من هذه المحافظة، بايامو ومانسانيجو، التوأم في النضال وفي التاريخ وفي المجد، بمدرسة كهذه –مدرسة باياموا ستُنجز في القريب العاجل-، وسيكون فيهما طلاب من كل البلديات؛ وهذا هو الجيّد فيهما، وسيزاد بشكل مطرد عدد الشبان القادمين من البلديات، وذلك بالقدر الذي يتوفر فيه الوقت لاختيار الطلاب الذين سيدخلون في كل سنة إلى هذه المدرسة.
في المدرسة التي تم افتتاحها هناك شاهدنا مسرحاً متنقلاً، وهو عبارة عن مبادرة من مبدع شاب يحمل المسرح والكتب والموسيقى إلى أي مكان كان. كم من شيء ومن مبادرة تشاهَد في كل مكان!
عن مهرجان افتتاح برنامج التأهيل التكاملي للشبان من واجبي القول بأنه واحد من أكثر الأمور التي شاهدتها في حياتي تحريكاً للمشاعر (هتافات)، لأنني لاحظت هناك حشداً من الشبان عرفوا من الحياة أقسى ما فيها، عرفوا من الحياة التضحية والصعاب، ولوحظت فيهم القناعة الكاملة بأن أبواب مستقبل مشرق في مجالات العلوم والثقافة والآداب والعلم قد فُتحت أمامهم (تصفيق)؛ إنها مدرسة يمكن القول بأنها تحمل على مدخلها عبارة: "أدخل واصنع بحياتك ما تريد أن تصنعه بها" (تصفيق). وأولئك الذين، لسبب أو لآخر، أتيحت لهم فرصاً قليلة جداً في الحياة أو أنهم كانوا قد فقدوها، أثبتوا الولع والحس والكرامة والأباء في القرار الحكيم والنبيل بالدخول إلى هذه المدارس واغتنام الفرص من جديد من أجل تحقيق المعارف والوصول إلى الغاية التي يطمحون إليها (تصفيق).
عن المهرجان الثالث يمكنني أن أقول بأنه لوحظ هناك أمر جديد كلياً: فتلك المسماة "قاعات فيديو" هي أكثر بكثير من ذلك، وقد اكتشفنا هذا يوم أمس، لمسناه، لأن الفكرة التي نشأت بغية إتاحة الفرصة لتلقي معلومات ومعارف وترفيه ثقافي أو رياضي، قد تحولت الآن إلى ما يشبه جامعة مصغّرة، يقوم أطباء عائلة ومعلمون ومنظمات جماهيرية وممثلون عن السلطات الشعبية وكل الذين ينفذون برامج صحية واسعة بالنسبة لمواطنينا ويعلّمون كيفية العيش حسب أي مشكلة صحية يعانونها –وأي كان يعاني عدداً من الأمراض بشكل متفاوت بين أحدهم والآخر، خاصة عندما يتقدم المرء بالسن-، ويرشدونهم هناك إلى كيفية ممارسة حياتهم، وما الذي يستطيعون أو لا يستطيعون فعله، أو بتعبير أفضل ما الذي يجب أو لا يجب عليهم صنعه. يتحول هذا إلى رفاه، إلى صحة، إلى سعادة بالنسبة للإنسان وبالنسبة لكل ذويه، ويتحول إلى سعادة لكل أبناء البلدة (تصفيق).
ويعلمونهم هناك أيضاً ممارسات أخرى ذات طابع اجتماعي تسمح لهم بمواجهة مشكلات من نوع أو من آخر، تقلص بشكل كبير العادات المضرّة، على غرار ما يتم تحقيقه وسيتم تحقيقه من خفض أكبر يوماً بعد يوم لعادة التدخين، على سبيل المثال، أو أن يقوم الشخص على الأقل بالتدخين في منزله أو في أي مكان ملائم يكون فيه بمفرده وليس في مكان يجتمع فيه ثلاثون أو أربعون أو خمسون شخصاً. وستساهم أيضاً بتقليص عادة الحفلات واللقاءات الاجتماعية المتمادية في استهلاك الكحول، لأنه لا يتم في هذه القاعات استهلاكه قطعاً؛ يرتدون أفضل ما لديهم من زي فلاحي، وتذهب العائلات إلى هذه الأماكن، وليس هناك مشاجرات، ولا تقع حوادث كريهة ما تزال في جزء منها وليدة قرون من الجهل وهي ليست من شيمة شعب يقوم بثورة في كل المجالات، وخاصة في مجال المعرفة والثقافة (تصفيق).
أعمار أبناء شعبنا ستطول، وذلك بالرغم من المناخ المضرّ وارتفاع الحرارة والظروف غير الملائمة في أحيان كثيرة، لأنه مناخ رطب أيضاً، على خلاف ما يحدث في المناطق الباردة من البلدان المتقدمة.
مثال جيد هو المعلومة التي تشير إلى أنه في كوبا، كوبا هذه التي كانت على مدى زمن طويل امتهاناً للاستعمار وامتهاناً للاستعمار الجديد والإمبريالية، كانت نسبة الوفيات بين الأطفال عندما انتصرت الثورة لا تقل عن 60 بين كل ألف مولود حي خلال السنة الأولى من العمر، هذا إذا كانت الإحصاءات موثوقة، لأنني أعتقد بأنه لم تكن هناك حتى إحصاءات جادة، ومن يَدري كم من طفل كان يموت ولا تدوَّن حالته، كأولئك الذين يعيشون في الجهة الأخرى من جبال سييرّا مايسترا وقد ملأها أبناؤها بالصلبان علامات لقبور فلاحين وأقارب لهم كانوا يموتون على شاطئ البحر بانتظار أن تمر سفينة شراعية. لقد ولّت القبور منذ زمن طويل، ومنذ زمن طويل ويستفيد مائة بالمائة من الأطفال قبل أن يولدوا وأمهاتهم من 12 أو 13 أو 14 مراجعة طبية، وكل الفحوص اللازمة، وتساعد دور الأمومة على معالجة أمراض يمكنها أن تهدد الأمهات وتحمي أم المستقبل وطفل المستقبل على حد سواء. ومن هنا يأتي ما تبلغه من انخفاض في بلدنا نسبة الوفيات بين الأمهات وبين الأطفال من صفر إلى سنة واحدة ومن صفر إلى خمس سنوات.
يتمتع هذا البلد اليوم بِ 67 ألف طبيب، وهي أعلى نسبة في العالم مقابل عدد السكان، إذ أن لدينا حوالي ضعف ما عند أكثر البلدان تقدماً من أطباء بالنسبة لعدد السكان، وهم لا يقدمون العناية لشعبنا فقط، وإنما تتوفر لدينا موارد بشرية لمساعدة شعوب أخرى، وهناك ثلاثة آلاف طالب طب كوبي يدخلون الجامعة سنوياً.
هذا هو الجهد الذي يدين له الرأسمال البشري الهائل والمدهش الذي تتمتع به بلادنا من أطباء ومعلمين وفنيين (تصفيق)، وأكرر بأنه لا يتمتع بها أي بلد آخر في العالم بالمقارنة مع عدد مواطنيه وما لديه من موارد. وإلى هذا يرجع أن عدد الأطفال الذين يموتون قبل بلوغ السنة من العمر في الولايات المتحدة هو سبعة، في حين أن عدد الأطفال الذين يموتون في كوبا، البلد المعذّب الذي تحدثت عنه من قبل، هو ستة فقط بين كل ألف مولود حي، في ظروف هذا المناخ –أعود وأكرر-، ومن واجبنا أن نواصل العمل على خفضها. هناك محافظات تبلغ هذه النسبة فيها خمسة، وأخرى دون الخمسة، وهناك بلديات كاملة لم تسجّل حالة وفاة واحدة خلال سنة، الأمر الذي يبرهن على ما يتمتع به بلدنا من إمكانيات راهنة (تصفيق وهتافات).
(ينظر إلى الساعة) الدقائق آخذة بالقصَر وما زال عندي بعض الأفكار التي أود التعبير عنها.
كان مبعث ارتياح كبير التمكن من افتتاح هذه البرامج الأربعة هنا في محافظة غرانما، المفعمة بالتاريخ، المفعمة بالمزايا (هتافات).
لا يمكن النسيان أنه قد بدأت في هذه المحافظة، في [مزرعة] "لا ديماخاغوا"، حربنا الأولى من أجل الاستقلال.
لا يمكن النسيان بأنه كان هنا أن تم أولاً تحرير العبيد، وهي البادرة الثورية من جانب ما كان عليه كارلوس مانويل دي سيسبيديس من وطني عظيم، والذي كانت قد أتيحت له الفرصة للدراسة، ولهذا أمكنه أن يبلور ثورة ويقودها. منذ اللحظة الأولى حمله وعيه إلى هذا العمل الأساسي من العدالة. سار باتجاه بايامو، واستولى ورجاله على المدينة، وفي بايامو تم سطر صفحات مجيدة، من أكثر صفحات تاريخ وطننا مجداً. وهنا تم إنشاد هذا النشيد الذي يبعث كل ما يبعث عندنا من الفخر وتتحرك له المشاعر عند سماعه. وهناك شن ماكسيمو غوميز أول حرب على قوات الاستعمار التي كانت تغادر بايري بعدما قدمت إليها من سنتياغو دي كوبا، وكانت تسير باتجاه بايامو. وهناك اكتشف الكوبيون سلاحهم رقم واحد، المنجل، ذلك المنجل الذي كانوا يستخدمونه في عملهم في الحقول، ومن ثم المشاة؛ فمنجل وحصان كانا سلاحاهم الأساسيان اللذين بدأوا يكتبون بهما التاريخ المجيد لوطننا (تصفيق). وهناك، في دوس ريّوس، وهب دمه بطل الاستقلال، خوسيه مارتيه، مبدع الأفكار وأنبل ما يمكن تصوره من أفكار؛ بطلنا الوطني، الذي ألهمت أفكاره جيل الذكرى المئوية، وتُلهم اليوم وستُلهم أكثر يوماً بعد يوم كل الشعب الكوبي.
عندما امتدت رقعة الكفاح الذي بدأ في غرانما إلى سنتياغو دي كوبا وإلى بقية المحافظة الشرقية سابقاً وإلى كماغويه، إنما كانت تتبلور حركة استقلالية عند شعب كان أعزل عملياً. تلك الحركة البطولية؛ وسط مجتمع عبودي، وهي ما كانت عليه السمة الرئيسية لتلك المستعمرة، حيث لم يكن بوسع كثيرين ممن يسمون بلديين [مواليد كوبا من الإسبانيين] أن يكونوا وطنيين، لأنهم كانوا أصحاب مزارع كبيرة وأعداداً كبيرة من العبيد، وبدلاً من الاستقلال، ما كانوا يتمنونه منذ بدايات القرن التاسع عشر هو الانضمام إلى الولايات المتحدة؛ بحفنة من الرجال تمردت تلك الحركة وحمل أبناؤها السلاح وسارت بالحرب حتى وسط البلد، وأوشكت على حملها إلى الغرب، حيث كان تتولد الثروات الأساسية التي يتمتع بها المستعمرون لسحق الحركة الثورية، وهي ثروات تكوّنت من جرّاء اليد العاملة الرخيصة المتمثلة بالعبيد. كافح الوطنيون على مدى عشر سنوات بلا هدنة؛ وبعد هدنة قصيرة لم يوافق الجميع عليها، فرضها الانقسام، لم يكلّوا في محاولتهم، إلى أن استأنفوا النضال في عام 1895، تحت قيادة مارتيه، الذي تمكن من جعل أفكاره تسود بين الوطنيين الكوبيين.
لاحظوا كيف هو عليه التاريخ، عندما امتدت ثورة "لا ديماخاغوا" إلى سنتياغو دي كوبا، نشأ هناك أفراد أسرة ماسيو ونشأ المارد البرونزي [أنتونيو ماسيو]، وهو واحد من أمجد الثوار في تاريخ النضالات، ليس الكوبية فقط، وإنما الأمريكية اللاتينية والعالمية: 800 عملاً عسكرياً، 27 إصابة بجروح في المعركة. يا له من رجل عظيم!
في تلك الحرب تحولت محافظة سنتياغو الشقيقة إلى حصن نضالي من أجل الاستقلال، على غرار ما كانت عليه غوانتانامو لاحقاً، عندما حررت قوات ماكسيمو غوميز وفي طليعتها ماسيو تلك المنطقة، وهي منطقة كان يكثر فيها العبيد في مزارع البن، محصلة وصول كثير من المزارِعين الفرنسيين المهاجرين من هايتي، حيث كان العبيد قد تمردوا وقضوا على العبودية، بل وألحقوا الهزيمة بأحد أفضل جنرالات الجنرال الأفضل في تلك المرحلة ومراحل أخرى كثيرة، وهو نابليون بونابرت.
انطلقت الحملة من مانغوس دي باراغواه باتجاه الغرب في الحرب الكبرى الثانية من أجل الاستقلال، وهذا هو جزء أساسي من تاريخنا. وحقيقة بارزة هي أن أبناء الشرق وصلوا حتى الطرف الغربي من بينار ديل ريو –ومن هنا تأتي روح الثورة التي لاحظناها دوماً عند أبناء محافظات الشرق.
ماذا حدث بعد ذلك؟ بدأنا نحن نضالنا الثوري في سنتياغو دي كوبا، وذلك بمهاجمة ثكنة "مونكادا" في السادس والعشرين من تموز/يوليو 1953، وعدنا لاستئناف ذلك النضال بعد ثلاث سنوات بالكاد من الموعد المذكور. عندما عدنا في يخت "غرانما" وأنزلنا على شاطئ لاس كولوراداس (تصفيق)، تواصل الطريق الثوري الطويل على أرض "لا ديماخاغوا". تعرضنا لأكثر الخسائر فداحة، بدون أن تنهار عزيمتنا؛ وبحفنة من الرجال أعدنا بناء الجيش الثائر، الذي تمكن بتجربته المكتسبة وبخطى سريعة من إلحاق الهزيمة بالنظام المستبد الذي كان يتمتع بثمانين ألف رجل مسلح، وذلك خلال أقل من سنتين، هذا إذا حسبنا هزيمتنا في أليغريّا دي بيّو التي وقعت بعد ثلاثة أيام من وصولنا، وتشتت فيها قواتنا، وقتل كثيرون رفاقنا الذين شاءت الصدفة أن يصطدموا بالعدو، أو أنهم وقعوا أسرى أو قدموا أرواحهم للقضية، قبل أن نعاود تشكيل فصيل صغير من الجيش الثائر بحفنة من الرجال الذين نجوا والفلاحين الذين التحقوا بهذا الفصيل.
أنا لا أحضر جميع المنابر المفتوحة التي تقام، وإنما في حالات استثنائية، نظراً للكم الهائل من العمل الذي يجبرنا على تقاسمه (تصفيق)، ولكنني أتابعها عادة عبر التلفزيون، وكم هو جميل رؤية الرفيق راؤول يتقدمها على الدوام تقريباً، ومعه كل من كوماندانات الثورة خوان ألمييدا وراميرو فالديس وغيجيرمو غارسيا فريّاس (تصفيق)؛ ألاحظهم عادة وأراهم في صحة جيدة وأفكّر أنه سيكون بوسعهم أن يواصلوا لمدة من الزمن تقديم مساهمة من تجربتهم ومثالهم للأجيال الجديدة التي تنشأ بوهج ما فوق العادي، بمعارف ما فوق العادية وبمزايا ثورية ما فوق العادية (تصفيق)، تعطي الإيمان وتشكل ضمانة لما سيكون عليه هذا الشعب من غابة هائلة وشاسعة من الأبطال، وذلك انطلاقاً من البذور التي زُرعت في تلك السنوات محلّ ذكري.
كنت تحدث مع راميرو وغيجيرموا عندما وصلنا إلى هذا المكان الذي احتفظ بكثير من الذكريات عنه (تصفيق) أو الذي يذكّرنا بهذه الجبال غير البعيدة جداً، حيث أعيد بناء الجيش الثائر وحقق انتصاراته الأولى؛ وتمكّن من التغلب على تلك الملاحقة المتواصلة، التي فاقمتها حالات خيانة أوشكت أن تؤدي بنا إلى الفناء الكلي لقواتنا المتواضعة.
على مقربة كبيرة جداً من هنا يقع مسرح عمليات الطابور الرابع، بقيادة شي غيفارا الذي نكنّ له كل ما نكنّ من حب ونتذكره كل ما نتذكّره (تصفيق). بهذه الطرقات مرّ هو عندما توجه للاستيلاء على ثكنة بوي-سيتوس؛ أذكر بأن ذلك كان في حوالي الحادي والثلاثين من تموز/يوليو، اليوم التالي لمصرع فرانك باييس، واحتل تلك الثكنة –وقد روى لي راميرو بأن الدفاع الذي كان متمرس بشكل جيد كان يتكوّن من حوالي عشرين رجلاً-؛ واستولى مع رجاله هناك على نحو 20 قطعة سلاح، في ما شكّل تعويضاً عن الألم الذي شعرنا به جميعاً لوفاة فرانك باييس.
خاض هنا معارك كثيرة، لأنه كانت قد تمركزت هنا واحدة من أكثر القوات عدوانية ودموية من قوات النظام المستبدّ، التي تربت على الحقد وحفّزها دائماً استهلاك المخدرات، فقد كان أمراً معتاداً عندهم محاولة اكتساب الشجاعة عبر تدخين الماريهوانا. وفعلاً، كانت من أشرسها، وقد وصل قائدها إلى سييرا مايسترا ملازماً وانصرف منها عقيداً، نعم، عقيد مصاب بعيار في الرأس في نهاية الهجوم الأخير على العدو.
على مسافة قريبة جداً من هنا حارب غيجيرمو بقوة، وبقي راميرو على رأس هذه المواقع إلى هذا الجانب من [قمة] توركينو، إلى القطاع الأيمن من شرقي لا بلاتا، حيث كان يقوم مقر القيادة المركزية للجيش الثائر؛ وهناك أيضاً كان يوجد مستشفى صُنع من الخشب وسعف النخيل كيفما اتفق وكان هاماً، وكانت هناك راديو ريبيلدي (الإذاعة الثورية) على رأس جبل، بقوة كيلواط واحد، بلغ صوتها كل أنحاء البلاد وكانت تُسمع أكثر من أي إذاعة أخرى (تصفيق).
لا يمكن النسيان أنه على مسافة قصيرة جداً من هنا وقع أمر في وقت سابق، ونحن نقوم بفتح جبهات جديدة، لم أُشِر إليه، وهو ترقية كلاً من راؤول وألمييدا إلى رتبة كوماندان، في نهايات شهر شباط/فبراير 1958 (تصفيق) وتشكيل طابورين، وهما "فرانك باييس"، بقيادة راؤول، و"ماريو مونيوز"، بقيادة ألمييدا. وكانت مهمة كلاهما التقدم نحو الشرق: كانت مهمة راؤول الابتعاد عن سييرّا مايسترا ثم اجتياز السهل من على مقربة من بالما سوريانو حتى جبال ما أصبحت عليه لاحقاً الجبهة الشرقية الثانية، وكانت مهمة ألمييدا فتح جبهة حرب عصابات في أنحاء سنتياغو دي كوبا. احتاج الأمر بعد شهرين ونصف إلى استدعاء قوة ألمييدا في لحظة حرجة جداً، لأنه بعد فشل إضراب نيسان/أبريل، تجرأ نظام الطاغية على إنزال عشرة آلاف جندي من أفضل قواته، بدعم من الطيران والدبابات والمدفعية، إلى آخره، إلى الجبهة رقم واحد من سييرّا مايسترا، وكان ذلك في الواقع ضد القيادة العامة، حيث كانت الإذاعة الثائرة والمستشفى ومقر القيادة.
من هذا الموقع انطلقت كتيبة سانشيز موسكيرا، وفي وجه هذه الكتيبة أوقف كل من راميرو على رأس الطابور الرابع آنذاك، وغيجيرمو كجزء من قوات سنتياغو المرسلة كتعزيز، تقدم تلك الكتيبة، وذلك بخوضهما معارك ضارية، وبالخبرة التي كان يتمتع بها كلاهما. تلك الكتيبة المسلحة بأحدث أنواع الأسلحة والمشهورة بأنها أفضل الكتائب، وجدت نفسها أمام مقاومة عدة فصائل؛ ولن أقول سريّة. كان عددنا قليل جداً. قبل قليل سأل أحدهم غيجيرمو، كان لديه نحو ثلاثين أو أربعين رجلاً في تلك المنطقة وكان يحاول منع الكتيبة المعادية من الوصول إلى جبال سييرّا من هذا الاتجاه. بدأوا ذلك الهجوم، وهو الهجوم الأخير، في الخامس والعشرين من أيار/مايو، بعدما حشدوا كل قواتهم البرية والجوية. وكانت تتحرك جنوباً فرقاطات قوات البحرية من أجل عزلنا والتضييق علينا.
في تلك اللحظة، الخامس والعشرين من أيار/مايو، عندما بدأ الهجوم من جانب لاس ميرسيديس، عند القطاع الأيسر من جبهتنا، كان عددنا دون الثلاثمائة رجل بكثير، فلم يكن يصل ولا حتى لمائتين عدد أفراد القوة التي كانت لدينا للمقاومة؛ ولكن سبق لنا وأن طلبنا من ألمييدا أن يعود بما لا يقل عن خمسين رجلاً من ذوي الخبرة من أفراد القوات المتواجدة على مقربة من سنتياغو دي كوبا، والذين كانوا في ذلك الموعد قد وصلوا إلى المنطقة. وكَميلو، الذي كان في السهل، طلبنا منه أيضاً أن يعود، وأخذوا يصلون في اللحظة الملائمة.
بعد حوالي ثلاثة أسابيع من بدء الهجوم، وبما أن الصراع أصبح أشد ضراوة، أخذ يشتد الطوق المضروب على لا بلاتا، التي هاجمتها عدة كتائب من نقاط مختلفة، ولم يكن عدد القوات المدافعة عنها كافياً، وبعد انتهاء المعارك في بويه أرّيبا، تلقت كتائب موسكيرا، التي لم تتمكن من الوصول إلى سييرا مايسترا من أجل التقدم من هناك باتجاه مقر القيادة، الأوامر بالتوجه نحو الغرب من أجل التوغل في سانتو دومينغو، في أنحاء لا بلاتا، وذلك بهدف مهاجمة مقر قيادتنا من ذلك الموقع، والذي وصلت إليه في التاسع عشر من حزيران/يونيو بعدما تغلبت على مقاومة فصيلين من الثوار نصبت لهما كمائن، وكان في ذلك التحرك الكثير جداً من عامل المفاجأة. استوجب هذا ضرورة تغيير مواقع قوات كانت تدافع هن القاعدة الواقعة بعد قمة توركينو، وذلك بهدف توفير دفاع أمتن وأقوى. يوما الثامن والعشرون والتاسع والعشرون من حزيران/يونيو، قبل ساعات قليلة من وصول تعزيزات ألمييدا وكَميلو، وجهت قوات من الطابور رقم واحد ضربة موجعة للكتيبتين اللتين كانتا تحاولان بقيادة سانشيز موسكيرا الاستيلاء على لا بلاتا، وأنزلت خسائر فادحة مادية وبالأرواح في صفوفهما واستولت على أسلحة لهما. وفي اليوم التالي، 30 حزيران/يونيو، في ساعات الليل وبدعم من قوات ألمييدا وراميرو وكَميلو، واستغلالاً لانهيار معنويات العدو، قمنا بهجوم معاكس انطلاقاً من عدة اتجاهات، ووضعنا الكتيبتين في مأزق حرج، مع أننا لم نتمكن من تشتيتهما أو حملهما على الاستسلام. مع وصول تلك التعزيز كان لعددنا أن بلغ حوالي الثلاثمائة رجل، وعليهم وقعت هجمات العشرة آلاف جندي من أفضل قوات الدكتاتورية، وذلك في صراع استغرق نحو سبعين يوماً بلا هدنة.
أحرزوا هم التقدم خلال حوالي 35 يوماً، وبعدما تلقوا ضربات سافرة ومتزايدة، أخذوا بالتراجع أمام ملاحقة شديدة من جانب قواتنا، التي كان عدد أفرادها يزداد بقدر استيلائنا على أسلحة للعدو. وخلال مدة زمنية مماثلة قمنا نحن بالمهاجمة، وأوشكت الحرب أن تنتهي في تلك اللحظة؛ لحسن حظهم، وربما بسب ما كان عليه رجالنا من حالة إنهاك، والذين أصبحوا حفاة، تمكنت وحداتهم الأخيرة من الفرار. موسكيرا، الذي كان محاصراً مع كتيبته، أصيب بجروح خلال عملية انسحاب عسيرة ومعقدة. وبعد سبعين يوماً أصبح لدينا من الرجال المسلحين 900. يمكن القول أن القوة الوحيدة التي لم نطلبها ولم يكن من الصائب تغيير موقعها هي قوة الجبهة الثانية، نظراً للمسافة التي يستحيل قطعها خلال أيام قليلة، ولأننا اعتبرنا أنه عبر ما كنا نجمعه من قوات كان بالإمكان إلحاق الهزيمة بالهجوم.
بتسعمائة رجل تم غزو بقية المحافظة ونصف الجزيرة. عاد كل من ألمييدا وغيجيرمو إلى موقعيهما وأرسلنا قوات جديدة إلى الشرق، وأرسلنا قوات إلى شمال المحافظة، بل وأرسلنا طابوراً إلى كماغويه، وأرسلنا طابورين شهيرين، وهما طابوري شي وكَميلو، الأول مكوّن من 140 رجلاً والثاني من 190، حسبما أذكر، قاما بمأثرة السير مسافة 500 كيلومتر من أجل الوصول إلى وسط البلاد. كانت تلك الأيام أيام حزن وقلق أثناء مسيرها إلى محافظة لاس فيّاس. على هذا النحو أخذ الطابوران باحتلال مواقع في اتجاهات مختلفة في وجه عدو انهارت معنوياته وأخذت تضعف في كل لحظة.
كان هنا، من هذه المنطقة من سييرا مايسترا، أن انطلقت جميع طوابير الثوار، ومن على مسافة كيلومترات قليلة من هنا خرج طابورنا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر من أجل التقدم نحو سنتياغو دي كوبا؛ بل ولا تظنّن أنه كان طابوراً عظيماً، جيد التسلح، فقد خرجنا بفوج واحد وألف مجند عزّل من السلاح. أخذنا بالتقدم، وجمع بعض الفصائل، بعضها عبارة عن فصائل صغيرة، وعندما وصلنا إلى هنا كان بيننا أقل من مائة رجل مسلّح. مع إشرافنا على الوصول كنا نضرب حصاراً عملياً على سرية من الجيش، وكانت القوة الوحيدة لباتيستا القريبة من سييرا مايسترا. تقدمنا بسرعة. فكّرنا بمحاصرتها وحملها على الاستسلام. بقوة صغيرة، وكان ضابط لنا، جديد جداً، يحتل طريق انسحاب تلك الوحدة، في حين حثّينا نحن الخطى لمنعها من الفرار.
لسوء الحظ أنه لم يكن عند ضابطنا الشاب الكثير من الخبرة، وكنا نحن نستخدم سلاحاً نفسياً، وكنا آخذين منذ أيام من ذلك بتحييد قائد السرية –وكان بالإمكان تحقيق ذلك-، لو أحكمنا عليهم الطوق لما كان لهم أن يقاوموا 24 ساعة. أروي هذا هنا، رغم خطر امتداد الحديث بضع دقائق. كان على ضابطنا أن يسلّم رسالة خطية منّي، في ظرف مغلق، إلى قائد تلك القوة؛ بعثها مرفقة بملاحظة مسيئة منه هو؛ وكان هذا أقل ما يلائم من أمر لتحقيق هدفنا، وما فعله ذلك القائد وسريته هو الفرار بأقصى سرعة. كنا بحاجة لأسلحة تلك السرية.
ومواصلة للمسيرة، بعد ذلك الحدث مباشرة تقريباً، عقدت لقاءً ودياً مع فوجين من الجيش، واللذين كان من هو اليوم جنرال كيفيدون –الذي حارب ضدنا في "إل خويغي"، ولكن شهـم بالفعل-، قد أقنعمها، ليس بالالتحاق بنا كجنود، وإنما بوقف الحرب وتسليمنا الأسلحة؛ وصلنا بذلك إلى حوالي 180 رجلاً مسلحاً. كنت قد زرت هذا المكان في السابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 1958، وبعد ذلك بثلاثة أيام بدأت في غيسا ما أسميناها معركة، وذلك لحجم القوات المعادية التي شاركت فيها. بدأت المعركة ضد قوات بايامو، مقر قيادة عمليات القوات المعادية، حوالي خمسة آلاف جندي، وكان بإمكان الشاحنات والدبابات وكل ما عدا ذلك الانتقال من هناك إلى غيسا عبر طرق معبدة. قضينا عشرة أيام ونحن نعارك هناك. وكان عدد قواتنا يزداد بقدر استيلائنا على مزيد من الأسلحة والذخائر، إلى أن ألحقنا الهزيمة بتلك القوات وسيطرنا على المدينة.
واصلنا المسير حتى سنتياغو ونحن نحرر مدناً كانت تحتلها القوات المعادية: أولاً بايري، ثم خيغواني، فبالما سوريانو ومافّو، وذلك بالتعاون مع قوات ألمييدا وطوابير أخرى مع إلقاء القبض على مئات الأسرى والاستيلاء على أسلحتهم وذخائرهم. كانت قد اجتمعت كل الطوابير، كل الجبهات، والقوات الباسلة للجبهة الشرقية الثانية وقوات ألمييدا، جميع قوات شرقي المحافظة تقريباً، وكنّا سنهاجم سنتياغو دي كوبا بألف ومئتي رجل. كان هناك فرقاطتين وكذلك خمسة آلاف جندي. وكانت هناك قلعة "مونكادا" التي كنّا نستعد لاحتلالها، وفي تلك المرة ما كان لهم أن يفلتوا بأي طريقة من الطرق: ألف ومائتا رجل ذي خبرة هو رقم يبعث على الاعتداد، لأن 1200 مقابل 5000 كان أفضل ميزان قوى عشناه أبداً، وكان حينها أن أتى قائد القوات المعادية يطلب مقابلة؛ فقد وصل في طائرة هيلوكبتر وأكد بأنهم قد خسروا الحرب، وسأل عن الطريقة التي يجب أن تنتهي بها حسب رأينا. اقترحنا عليه نحن أن يرفع الحماية عن سنتياغو دي كوبا، ووافق على ذلك. لكنه أراد التوجه إلى العاصمة وشهر أسباباً مختلفة لذلك. أصرّيت عليه: "لا تذهب إلى العاصمة"، من أجل عدم مواجهة مخاطر. مما لا شك فيه بأنه كان له نفوذاً، فقد كان قائد عمليات القوات المعادية. لم يكن مجرماً ولا بد من قول ذلك بصدق، ولم يكن ذنباً؛ الحقيقة أنه كان شخصاً يمكن القول بأنه حضارياً، ولم يكن يفتقد للمكانة داخل جيشه.
طلبنا منه ثلاثة أمور: أولاً، "لا نريد انقلاباً في العاصمة"، نبهناه من ذلك جيداً؛ ثانياً، "لا نريدكم أن تدعوا باتيستا يفرّ"؛ ثالثاً، "لا نريدك أن تتحدث مع سفارة الولايات المتحدة".
وصل إلى هافانا ونحن بالانتظار، وكان يوم 30 هو موعد قيام التمرد؛ "لا، لن أفعل، إنما فقط رسالة صغيرة سأبعثها، بعض الرسائل"، فردّينا عليها من خلال قائد حامية سنتياغو بأنه بعد انتهاء المهلة سنهاجم المدينة ونحررها. إن هذه القصة طويلة، يستحيل روايتها في يوم كهذا. إنما أقول فقط بأنه صنع هذه الأشياء بشكل معاكس (ضحك): قام بانقلاب في العاصمة، وودعوا باتيستا في المطار وأجروا اتصالات مع السفارة الأمريكية. كل شيء واضح.
كان آنذاك أن حدث الأول من كانون الثاني/يناير، رفعنا شعار عدم وقف إطلاق النار، والتقدم بكل القوات ودعوة عمال البلاد إلى إضراب عام ثوري، استجاب له الجميع بدون استثناء، رغم أن قيادة الحركة العمالية كانت بأيدٍ مرتزقة، زعماء نقابيون صُفْر.
في تلك المناسبة حدث السقوط الكامل. في تلك الليلة ذاتها دخلنا في سنتياغو دي كوبا. لم يكن على غرار 1898 عندما لم تسمح قوات الحملة الأمريكية، التي تدخلت في تلك الحرب في لحظة أصبحت فيها إسبانيا مهزومة، بأن يدخل الثوار إلى سنتياغو دي كوبا. هذه المرة دخل الثوار إلى سنتياغو دي كوبا، ودخلوا إلى هافانا، ودخلوا إلى غواناهاكابيبيس، ودخلوا إلى رأس سان أنتونيو، إلى كل أنحاء البلاد، وكل الأسلحة كانت بيد الشعب (تصفيق)، كل الشعب الموحد؛ هذا الشعب المتحد اليوم أكثر بعد، ولكن لا يوجد فيه نسبة 30 بالمائة من الأميين، ولا 60 بالمائة من الأميين الوظيفيين ولا شبه الأميين. والقول بأن عشرة بالمائة من الأشخاص لم يكونوا أميين كلياً ولا وظيفيين هي نسبة عالية، لأن حوالي 400 ألف كوبي فقط كانوا قد أنجزوا دراسة الصف السادس. لدينا اليوم من المهنيِّين الجامعيَّين اثنين مقابل كل مواطن واحد من مجتازي الصف السادس آنذاك (تصفيق)، والذين سيتخرجون في المستقبل! أنظر إليكم، وأرى طلبة، أرى تلاميذ دورتي ارتقاء تعليمي تكاملي، لأن الفرصة ستتاح لهم، الفرص التي يشاؤون، كما ذكرت (تصفيق).
انظروا كم من التاريخ يقترن بهذا المكان، بهذه الجبال، كم من التاريخ! (تصفيق)، وذلك لمزايا شعبنا أكثر من كونه لمزايا مقاتلينا الثوار؛ فلولا دعم الشعب ما كان بالإمكان ولا تصور أن تحقق ثورة عادت لها الروح بعد الإنزال البحري بسبعة رجال مسلحين فقط، النصر خلال أقل من 24 شهراً، لأنه يجب أن نُخرج من الحساب كل تلك الفترة التي تلت ما تعرضنا له من ضربة، بعدما هوجمنا بغتة، نظراً لافتقادنا للخبرة. إنه كثير ما توجّب علينا تعلّمه، لكي نبدأ من جديد ونتعلم من جديد عندما انتصرت الثورة. لقد سبق وذكرت في سنتياغو دي كوبا ليلة الأول من كانون الثاني/يناير، وقلت في ما هي عليه اليوم سيوداد ليبيرتاد [مدينة الحرية] في الثامن من ذلك الشهر نفسه، عندما وصلنا إلى العاصمة، بأن ما كان قيد الوصول هو أصعب بكثير. وماذا أتى؟: المأثرة، العمل البطولي، ما كتبتموه أنتم من تاريخ لا يُمحى، بل من الأفضل القول آباؤكم وأنتم، خلال 43 سنة، في وجه الإمبراطورية الجبارة التي حاصرتنا، واعتدت علينا، وأرادت وتريد قتلنا مرضاً وجوعاً (تصفيق). لم تتمكن من ذلك.
أوشكت أن تقع حرب نووية بسبب عناد الإمبراطورية، وهو عناد لم تتخلّ عنه بعد. لا تعي بعد بأن تدمير هذه الثورة التي يدافع عنها هذا الشعب هو أمر مستحيل (تصفيق)، وليس هذا بسبب القوة الجسدية لمقاتلينا، وإنما بسبب قوتهم الأخلاقية، بسبب أرادتهم في النصر أو الموت، بسبب إرادتهم في الدفاع عن عملية تاريخية وثورية منحتنا كل ما نملكه اليوم؛ وليس هو بشيء، ليس بشيء، لأن القوى آخذة بالتراكم في حقل المعارف، في حقل القيم الأخلاقية، في حقل الوعي، في حقل التنظيم والإدارة الذي يسمح لنا بصنع البرامج التي تحدثت عنها، حتى في الوقت الذي يتراوح فيه سعر السكر بين خمسة وستة سنتات، الذي يعادل نصف سنت في عهد ماتشادو، الذي تسبب بكل ما تسبب من جوع في بلدنا.
طبعاً، لم تكن البلاد صاحبة شيء، كل شيء كان ملكاً للشركات الأجنبية وللأقلية الثرية في هذا البلد، والطفلة قالت ذلك في هذا الحفل. وعندما عبّرت هي عن ضرورة الدفاع عمّا يملكه هذا الشعب اليوم، كنت أنا أتذكر الفلاحين الذين قُتلوا، وأتذكر مئات الفلاحين الذين تعرفنا إليهم وهم يعيشون في ظل الهول، وليس الحرب، فالهول الأول كان ذلك الذي يبعثه عندهم طردهم من أراضيهم؛ هول الجنود الذين كانوا يحرقون منازلهم، وأحياناً بمن يعيشون فيها، وقتل الكثير الكثير من الناس.
كنت أتذكر أولئك الفلاحين الفقراء، الأميين، الذين لم يكن عند أولادهم طبيباً؛ وكنا نرى ذلك عندما يذهبون إلى معسكرنا، لأنهم كانوا يعرفون بأنه يوجد لدينا طبيب، فقد كان هناك شي أو أطباء آخرون يأتون إلينا. في كل هذه الجبال لم يكن هناك طبيب واحد، ولا أعرف عدد الموجودين الآن، عشرات، ومن هنا إلى سنتياغو يمكن لهم أن يعدّوا بالمئات، لأن لدى بلدنا 30 ألف طبيب عائلة، لا 3 ولا 30 ولا 300 ولا 3000، 30 ألفاً! (تصفيق) –ويجب قول ذلك بصوت عالٍ-، و25 ألف أستاذ ومعلم بالإضافة إلى الجدد الآخذين بالتخرج من أجل التعليم على الكمبيوتر أو من أجل تقليص عدد تلاميذ الصف الواحد إلى ما لا يزيد عن عشرين –وهذا أحد كبرى الطموحات. إن أعدادهم تتضاعف من خلال برامج التأهيل العاجل لمعلمي المرحلة الابتدائية. وسيكون لدينا عشرات الآلاف من العمال الاجتماعيين؛ سيكون لدينا ما يستحق شعبنا أن يملك. أو كما قال [الشاعر] غيجين، ما كان علينا أن نملك! (تصفيق).
سيكون لدينا الآن أكثر منه، لأنه يجري تطوير أفكار وإمكانيات ولا حتى كنّا نحلم بها في تلك الآونة التي بدأنا بها الكفاح الثوري.
وجدت نفسي مضطراً للإطالة في هذه الكلمات، لأنه في مثل هذا اليوم بود المرء أن يقضي، من يدري كم من الوقت، في رواية أفكار، في رواية أسرار، في استذكار التاريخ (تصفيق وهتافات: "عاش فيدل")، ذلك أنني تجاوزت الوقت لبضع دقائق.
أعرف أن هناك أشياءً وددتم أن تعرفوها، أن أحكي لكم عن مونتيرّيه وأشياء أخرى كثيرة، لا أقول إلاّ أن كل شيء في لحظته، كل شيء في أوانه، وكل شيء في مكانه (تصفيق وهتافات). أعرف بأنكم أردتم معرفة أشياء كثيرة. يمكن الحديث عن مشكلات العالم، لكن هذه ليس اللحظة؛ فلنتكلم عن عملنا، عن انتصاراتنا، عن مستقبلنا اللامع. فلننظر إلى المستقبل الذي فاز به شعبنا بنضاله، إلى جانب عرفان وإعجاب ودعم أفقر الناس في العالم وأكثرهم معاناة؛ هناك، حيث يذهب أطباؤنا إلى غابات وجبال، إلى أنأى الأمكنة؛ هناك، حيث ذهب معلمونا؛ هناك، حيث يعي الناس وهم ينظرون إلى كوبا أن بوسع شعب، مهما كان صغيراً، أن يواجه الإمبراطورية، كما واجهتها كوبا خلال أربعين سنة، وتواجهها أكثر الآن مع وجود إمبريالية توسعية، القوة العظمى الوحيدة، سيدة الكثير والكثير والكثير من المجد شكلته مقاومة هذه السنوات العشر أو الإحدى عشر من الفترة الخاصة.
كم من المعاناة! كم من الارتياح! رغم ما رويته لكم عن الأزمة الاقتصادية، وعن أسعار السكر، وهي أسعار بائسة، وأسعار النيكل التي هي في مستويات بالكاد تعادل سعر التكلفة، أو الضربة التي تلقتها السياحة مع العمل الإرهابي المرتكب في نيويورك ضد الشعب الأمريكي، بالإضافة إلى النتائج السياسية التي عادت بها تلك الضربة، ما أدى بالعالم إلى مستوى شديد من التوتر ومن المشاكل الكبيرة، والتي تعودتم ونحن معتادين عليها منذ زمن طويل.
ولهذا، بحمية وشغف أكبر من أي وقت مضى أقول: عاشت ثورة كوبا الاشتراكية! (هتافات: "عاشت"!)، فبدونها ما كان لنا أن نكون ما نحن عليه اليوم، وما كان لنا أن نشغل الأماكن الأولى من مجال الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية والمعرفة والثقافة التي نشغلها اليوم.
الوطن أو الموت!
سننتصر!
(تصفيق حاد)