نص الخطاب الذي ألقاه القائد العام فيدل كاسترو روز في الجلسة المسائية المهيبة تكريماً لروح الكومندان إرنستو تشي غيفارا في ساحة الثورة، في 18 تشرين الأول/أكتوبر 1967.
التاريخ:
أيتها الرفيقات، أيها الرفاق الثوّار:
كان في أحد أيام شهر تموز/يوليو أو آب/أغسطس من عام 1955 أن تعرّفنا إلى تشي. وفي تلك الليلة، تحوّل -كما يقصّ هو في رواياته- إلى أحد أفراد حملة "غرانما" البحرية. ولكن تلك الحملة لم تكن تملك حينها لا قارب ولا أسلحة ولا قوات. وكان هكذا أن انضم، وإلى جانبه راؤول، إلى أول اثنين تكونت منهما قائمة المشاركين في حملة "غرانما".
مرّت منذ ذلك الحين اثنتا عشر سنة؛ اثنتا عشر سنة مشحونة بالكفاح والتاريخ. على مدار هذه السنوات، حمل الموت أرواحاً نفيسة ولا تعوّض؛ وفي الوقت نفسه، ظهر على مدار هذه السنوات من ثورتنا أشخاص ما فوق العاديين ونشأت بين رجال الثورة، وبين هؤلاء الرجال والشعب، روابط ودّ وروابط صداقة تتجاوز كل تعبير يخطر على البال.
وفي هذه الليلة نجتمع نحن وإياكم لنحاول التعبير بطريقة ما عن هذه المشاعر تجاه من كان واحداً من الأقربين إلينا؛ أحد أكثرهم إثارة للتقدير، أحد أكثرهم محلاً للود، وبدون أدنى شك، الأكثر استثنائية بين رفاقنا الثوار؛ التعبير عن هذه الأحاسيس نحوه ونحو الأبطال الذين قاتلوا إلى جانبه والأبطال الذين سقطوا معه من جيشه الأممي هذا، ممن سطروا صفحة مجيدة وناصعة من التاريخ.
كان تشي واحداً من الأشخاص الذين يشعر الجميع بالمحبة لهم، لبساطته، لطبعه، لطبيعته، لروحه الرفاقية، لشخصيته، لخصوصيته، حتى قبل أن نتعرف بعد على باقي الفضائل التي تميّز بها.
في تلك اللحظات الأولى كان طبيباً لقوّتنا. وهكذا أخذت تنشأ العلاقات وأخذت تنشأ المشاعر والأحاسيس.
كنت تراه مشبعاً بشعور عميق بالحقد على الإمبريالية واحتقارها، ليس فقط لأن فكره السياسي قد وصل إلى درجة عالية من التطور، وإنما لأن الفرصة قد أتيحت له قبيل ذلك لأن يشهد في غواتيمالا التدخل الإمبريالي المجرم عبر الجنود المرتزقة الذين قضوا على الثورة في ذلك البلد.
بالنسبة لرجل مثله، لم يكن الأمر بحاجة لكثير من الحجج. كان يكفيه أن يعرف بأن كوبا تعيش في وضع مشابه، كان يكفيه أن يعرف بأن هناك رجال عازمون على مكافحة هذا الوضع والسلاح بأيديهم، كان يكفيه أن يعرف بأن أولئك الرجال تُلهمهم أفكار ثورية ووطنية أصيلة. وكان هذا أكثر من كافٍ.
وهكذا، في أحد الأيام، بنهايات شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1956، بدأ المسيرة معنا نحو كوبا. أذكر أن تلك الرحلة كانت قاسية جداً بالنسبة له، نظراً للظروف التي تحتّم تنظيم عملية الانطلاق في ظلها، فلم يتمكّن حتى من التزوّد بالأدوية التي يحتاجها، وقضى الرحلة كلها تحت وطأة نوبة ربو شديدة لا يقوى شيء على تخفيفها، ولكن ذلك لم يدفعه للاشتكاء ولو للحظة واحدة.
وصلنا، وشرعنا بمسيراتنا الأولى، تعرضنا لأول هزيمة، وبعد بضعة أسابيع التقينا من جديد –كما تعرفون – مجموعة ممن تبقوا من جملة "غرانما"، وظلّ تشي طبيباً لفرقتنا.
جاءت بعد ذلك أول معركة ظافرة وكان تشي قد أصبح جندياً في قوتنا، وفي الوقت نفسه ظل طبيبها؛ وجاءت المعركة الظافرة الثانية، ولم يعد تشي جندياً حينها، وإنما كان أبرز الجنود في تلك المعركة، حيث قام وللمرة الأولى بواحدة من تلك المآثر الفريدة من نوعها التي كانت تميّزه في كل التحركات؛ وواصلت قوتنا نموّها، ثم حلّت معركة ذات أهمية ما فوق العادية في تلك اللحظة.
كان الوضع صعباً. المعلومات المتوفرة كانت خاطئة في كثير من الجوانب. فكنا في أوج النهار، عند الشروق، نتوجّه لاقتحام موقعاً شديد التحصين على الساحل، وهو موقع على درجة عالية من التسلّح، بينما تتواجد قوات معادية خلفنا، على مسافة غير بعيدة، وفي خضم تلك الحالة من الارتباك، تعيّن فيها طلب تعزيز كبير، بعدما تولّى خوان ألمييدا واحدة من أصعب المهمّات، ولكن ظل هناك جانب يخلو تماماً من القوات، ظل هناك جانب بدون قوة هجومية، مما يعرّض عمليتنا للخطر. وفي تلك اللحظة، طلب تشي، الذي كان ما يزال طبيباً، ثلاثة أو أربعة رجال، بينهم رجل يحمل رشاشاً، وخلال بضع ثوانٍ باشر المسيرة ليتولّى قيادة المهمة الهجومية انطلاقاً من ذلك الاتجاه.
وفي تلك الواقعة لم يكن مقاتلاً بارزاً فحسب، بل وكان أيضاً طبيباً بارزاً، حيث أسعف الرفاق الجرحى، كما أسعف في الوقت نفسه جنود العدو المصابين. وعندما استلزم الأمر مغادرة ذلك الموقع، بعد الاستيلاء على كل الأسلحة وشروعنا بمسيرة طويلة بينما تحاصرنا قوات معادية مختلفة، كان لا بدّ من بقاء أحد إلى جانب الجرحى، وقد بقي إلى جانبهم تشي. وبمساعدة مجموعة صغيرة من جنودنا، اعتنى بهم وأنقذ حياتهم ثم التحق وإياهم فيما بعد بالكتيبة.
اعتباراً من تلك اللحظة بدأ يبرز كقائد كفؤ وشجاع، من نوع الرجال الذين عندما يحتاج الأمر لتنفيذ مهمة صعبة، لا ينتظرون أن يُطلَب منهم تنفيذ هذه المهمَّة.
هذا ما فعله عندما وقعت معركة "إلـ أوفيرو"، وهكذا كان قد فعل أيضاً في مناسبة لم يتم الإتيان على ذكرها، وذلك في الآونة الأولى، حيث وبسبب عمل خياني، تعرضت مجموعتنا الصغيرة لهجوم مفاجئ من عدة طائرات، وأثناء انسحابنا تحت القصف وبعدما قطعنا مسافة لا بأس بها تذكرنا بعض البنادق التي تعود لعدد من الجنود الفلاحين الذين كانوا معنا في عملياتنا الأولى وطلبوا إذناً بعد ذلك لزيارة أقاربهم، في وقت لم يكن متوفراً بعد الانضباط اللازم في صفوف جيشنا حديث التكوين. وفي تلك اللحظة كان وارداً بالنسبة لنا احتمال ضياع تلك البنادق.
نتذكّر كيف أنه، وفور طرحنا للمشكلة، وتحت القصف، تطوع تشي. وقبل أن يأتيه الجواب انطلق لاستعادة تلك البنادق.
كانت هذه واحدة من مميزاته الجوهرية: استعداده الفوري، التلقائي، لتنفيذ أخطر المهام. وذلك كان يبعث بالطبع التقدير، التقدير المزدوج تجاه ذلك الرفيق الذي يكافح إلى جانبنا، وهو ليس من مواليد هذه الأرض، وكان رجلاً ذا أفكار عميقة، رجلاً كانت تغلي في عقله أحلام بالنضال في بقاع أخرى من القارة، ومع ذلك، أظهر تلك الغيرية، تلك النزاهة، وذلك الاستعداد للقيام دائماً بما هو أصعب، والمخاطرة بحياته دائماً.
هكذا كان له أن فاز برتبة كومندان ورتبة قائد الكتيبة الثانية التي نُظِّمت في سلسلة جبال سييرّا مايسترا؛ وهكذا كان أن بدأ نجمه بالصعود، وبدأ صيته يذيع كمقاتل فذّ يستحق أن يحمل أرفع الرتب خلال الحرب.
كان تشي جندياً لا يُعلى عليه؛ وكان تشي قائداً لا يُعلى عليه؛ وكان تشي من الناحية العسكرية رجلاً استثنائياً بكفاءته، واستثنائياً ببسالته، واستثنائياً بعنفوانه. إذا كان لديه نقطة ضعف كمقاتل، فإن نقطة الضعف هذه هي عنفوانه الزائد، استخفافه المطلق بالخطر.
يسعى الأعداء للخروج باستنتاجات من وفاته. كان تشي معلّماً في الحرب، وكان تشي فنّاناً بحرب الشوارع! وقد أثبت ذلك في عدد لا يُحصى من المرّات، وعلى الأخصّ في مأثرتين استثنائيتين، إحداهما حملته على رأس كتيبة، وتعرضت هذه الكتيبة لملاحقة آلاف الجنود في أراضٍ سهلية كلياً ومجهولة، فحقق -إلى جانب كميلو- مأثرة عسكرية رائعة. ولكنه أيضاً أثبت ذلك في حملته الساحقة في محافظة لاس فيجاس، وأثبته على وجه الخصوص في اقتحامه الجريء لمدينة سانتا كلارا، التي دخلها بكتيبة بالكاد يبلغ قوامها 300 رجل، وهي مدينة محصّنة بالدبابات والمدفعية وعدة آلاف من جنود المشاة.
هاتان المأثرتان كرّستاه كقائد كفؤ استثنائي، كمعلّم، كمبدع بالحرب الثورية.
ولكنهم، بموته، يحاولون أن ينفوا حقيقة وقيمة مفاهيمه وأفكاره الحربية الثورية.
يُمكن للمبدع أن يموت، وخاصة عندما يكون مبدعاً في فن بالغ الخطورة كالكفاح الثوري، ولكن ما لن يموت بأي شكل من الأشكال هو الإبداع الذي كرّس حياته له، كما كرّس له ذكاءه.
ما الغريب في أن يموت هذا المبدع في معركة؟ ما هو أكثر استثنائية بكثير من ذلك بعد هو عدم مقتله بأي معركة في المرات التي لا تعدّ ولا تحصى التي خاطر فيها بحياته خلال كفاحنا الثوري. وكثيرة هي المرّات التي تحتّم فيها منعه من المجازفة بحياته في تحركات أقل أهميّة.
وهكذا، في معركة، في واحدة من المعارك الكثيرة التي خاضها! فقد حياته. لا نمتلك ما يكفي من عناصر الحُكم تمكننا من التكهّن بكل الظروف التي سبقت هذه المعركة، وعن مدى تصرفه بطريقة مبالغ فيها من حيث العنفوان، ولكن –نكرر- إذا ما كان لديه نقطة ضعف كمقاتل، فإن نقطة ضعفه هذه هي عنفوانه الزائد، استخفافه المطلق بالمخاطر.
هذا هو الأمر الذي يصعب التوافق فيه بالرأي معه، لأننا نفهم بأن حياته، خبرته، كفاءته كقائد باسل، مكانته وكل ما كان يعنيه هو في حياته، كان أكبر بكثير، على نحو لا يقبل المقارنة، من التقدير الذي أجراه هو لنفسه.
ربّما أثّرت في تصرفه فكرة أن للبشر قيمة نسبية في التاريخ، فكرة أن القضايا لا تُهزَم عندما يسقط البشر وأن مسيرة التاريخ الحتمية لا تتوقف ولن تتوقف بسقوط القادة.
وهذا صحيح ولا يمكن التشكيك فيه. هذا يثبت إيمانه بالإنسان، إيمانه بالأفكار، إيمانه بالمثال. غير أنه –وكما ذكرت قبل بضعة أيام- كنّا نتمنّى من كل قلبنا أن نراه صانعاً للانتصارات، صانعاً للانتصارات تحت قيادته، صانعاً لها تحت إشرافه، إذ أن الرجال أصحاب خبرة كخبرته، بقامته، بقدرته الفريدة حقيقة، هم رجال نادرون.
نحن نقدّر ما عليه مثاله من قيمة، ونحن على قناعة مطلقة بأن هذا المثال سيكون مفيداً كحافز، وسيكون مفيداً في أن ينشأ بين الشعوب رجال مشابهون له.
ليس من السهل أن تجمع في شخص واحد كل المزايا والفضائل التي كانت تجتمع فيه. وليس من السهل أن يكون شخص، وبصورة تلقائية، قادراً على بلورة شخصية كشخصيته. بوسعي القول أنه من نوع الرجال الذين يصعب التساوي معهم ومن المستحيل عملياً التفوق عليهم. ولكننا نقول أيضاً أن الرجال مثله هم قادرون أيضاً، بمثالهم، على المساعدة على نشوء رجال مثله.
المسألة هي أننا لا نقدّر في تشي المحارب فقط، الرجل القادر على تحقيق مآثر كبرى. وما فعله هو، وما كان يفعله، كأن يواجه هو مع حفنة من الرجال جيشاً أوليغارشياً، مدرَّباً على أيدي مستشارين يانكيين وفّرتهم الإمبريالية اليانكية، بدعم من أوليغارشيات كل البلدان المجاورة، هذا العمل بحد ذاته يشكل مأثرة ما فوق العادية.
وإذا ما بحثنا في صفحات التاريخ، ربما لا نعثر على أي حالة لأحد شرع مع مجموعة من الرجال بكل هذا الصغر بالعدد بتنفيذ مهمّة أوسع نطاقاً من هذه، على أحد شرع مع مجموعة من الرجال بكل هذا الصغر بالعدد بمقارعة قوات تبلغ كل هذا العِظَم. وهذا الدليل على ثقته بنفسه، هذا الدليل على ثقته بالشعوب، هذا الدليل على إيمانه بالرجال لخوض المعارك، يمكن البحث عنه في صفحات التاريخ، ولكن لن يكون بالإمكان العثور له على مثيل.
وسقط.
يعتقد الاعداء أنهم قد هزموا أفكاره، أنهم قد هزموا مفهومه لحرب العصابات، أنهم قد هزموا وجهات نظره حول الكفاح الثوري المسلّح. وما تمكّنوا منه في الواقع هو أنه، بضربة حظ، القضاء عليه جسداً؛ ما تمكنوا منه هو تحقيق مكاسب عرضية يمكن للعدو أن يحققها في الحرب. وضربة الحظ هذه لا نعرف مدى ما أسهمت به تلك الميّزة التي تطرقنا لها من قبل، وهي عنفوانه المتمادي، استخفافه بالمخاطر، في معركة كمعارك كثيرة.
وكما حدث خلال حربنا الاستقلالية أيضاً. في معركة وقعت في دوس ريّوس قتَلوا أيقونة استقلالنا. وفي معركة في بونتا برافا قتلوا أنتونيو ماسيو، المجرِّب في مئات المعارك. وفي معارك مشابهة قضى عدد لا يُحصى من وطنيّي حربنا الاستقلالية. ومع ذلك، لم يشكّل ذلك هزيمة للقضية الكوبية.
كما ذكرنا قبل أيام قليلة، مصرع تشي هو ضربة قاسية، ضربة كبيرة للحركة الثورية، حيث يحرمها بدون أدنى شك من قائدها الأوسع خبرة والأرفع كفاءة.
لكن من ينشدون لحن الانتصار يخطئون. يخطئ من يعتقدون أن مصرعه هو هزيمة لأفكاره، هزيمة لتكتيكاته، هزيمة لمفاهيمه عن حرب العصابات، هزيمة لنظريته. لأن ذلك الرجل الذي سقط كأي إنسان فانٍ، كرجل تعرض في مرات كثيرة للرصاص، كعسكري، كقائد، هو أكثر كفاءة بكثير من أولئك الذين تمكنوا من قتله بفضل ضربة حظ.
ولكن، كيف يتعيّن على الثوار أن يواجهوا هذه الضربة الصادمة؟ كيف عليهم أن يواجهوا هذه الخسارة؟ ماذا سيكون رأي تشي لو كُتب له أن يعطي رأيه في هذا الأمر؟ لقد قال هو رأيه، وعبّر عنه بكل وضوح، عندما كتب في رسالة موجهة إلى مؤتمر تضامن شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بأنه إذا ما فاجأه الموت في أي مكان، فمرحى به ما دام دوي صرخة الحرب يصل إلى المسامع، وما همّ الموت ما دام هناك يد ستمتشق السلاح بعدنا.
وصرخة الحرب هذه ستصل إلى المسامع، ستصل إلى ملايين المنصتين! وليس يداً واحدة، وإنما ملايين الأيادي، ستمتشق السلاح بإلهام منه! والرجال والمنصتون والأيادي الممتدة ستحتاج قادةً سينشأون من صفوف الشعب، كما نشأ القادة في كل الثورات.
لن تحظى هذه الأيادي بقائد ذي الخبرة ما فوق العادية والكفاءة العظيمة التي كانت عند تشي. هؤلاء القادة سيتأهلون في خضم العملية النضالية، هؤلاء القادة سينشأون من قلب ملايين المنصتين، من ملايين الأيادي التي ستمتد، عاجلاً أم آجلاً، لتمتشق السلاح.
ليس أننا نعتبر بأنه سيكون لمصرعه ارتداد فوري من الناحية العملية للكفاح الثوري، أو سيكون لمصرعه ارتداد فوري من الناحية العملية لمسيرة النضالية. وإنما أنه عندما امتشق تشي السلاح من جديد، لم يكن يفكّر بتحقيق نصر فوري، لم يكن يفكّر بنصر سريع في وجه قوات الأوليغارشيّات والإمبريالية. كان ذهنه كمحارب مجرّب جاهزاً لكفاح طويل الأمد لخمس أو عشر أو خمس عشرة أو عشرين سنة إذا لزم الأمر. كان هو مستعداً للنضال خمس أو عشر أو خمس عشرة أو عشرين سنة إذا لزم الأمر!
وهذا هو الأفق الزمني الذي سيمتد إليه الارتداد الكبير لمصرعه، مثاله –على الأصحّ-، سيكون له قوة لا تُهزَم.
أولئك المتمسّكون بضربة الحظ يسعون هباء لنفي كفاءته وخبرته كقائد. كان تشي قائداً عسكرياً ذا كفاءة ما فوق العادية. ولكن عندما نتذكر نحن تشي، عندما نفكّر بتشي، لا نفكّر بشكل أساسي بمزاياه العسكرية. لا! فالحرب هي وسيلة وليست غاية، الحرب هي أداة الثوار. المهمّ هو الثورة، المهم هو القضية الثورية، الأفكار الثورية، الأهداف الثورية، المشاعر الثورية، والمزايا الثورية!
وفي هذا الحقل بالذات، في حقل الأفكار، في حقل المشاعر، في حقل المزايا الثورية، في حقل الذكاء، عدا عن المزايا العسكرية، حيث نشعر نحن بالخسارة الهائلة التي يعنيها مصرعه بالنسبة للحركة الثورية.
لأن تشي كان يجمع في شخصيته الاستثنائية مزايا قلّما تجتمع معاً. فقد برز كرجل فعل لا يُعلى عليه، ولكن تشي لم يكن رجل فعل لا يُعلى عليه فحَسب: كان تشي رجل فكر عميق، صاحب ذكاء بعيد الرؤية، وصاحب ثقافة عميقة. أي أنه كان يجمع في شخصه رجل الأفكار ورجل الفعل.
وليس أنه يجمع هذه الخاصّة المزدوجة كرجل فكر، وفكر عميق، ورجل فعل؛ بل وأن تشي كثائر كان يجمع بين المزايا التي يمكن وصفها بأنها التعبير الأمثل عن مزايا الثائر: رجل الكمال إياه، رجل بقمة النزاهة، ذو مصداقية مطلقة، رجل ذو حياة صارمة ومتقشفة، رجل لا يُمكن عملياً أن تجد في سلوكه شائبة واحدة. شكّل بمزاياه ما يمكننا أن نسميه النموذج الحقيقي لمزايا الثائر.
ولكنه أضاف ميزة أخرى كذلك، وهي ليست ميزة الفكر، ليست ميّزة الإرادة، وليست ميّزة منبثقة عن الخبرة، عن الكفاح، وإنما ميّزة القلب، لأنه كان رجلاً على درجة ما فوق العادية من الإنسانية، على درجة ما فوق العادية من الإحساس!
لهذا نقول عندما نفكّر بتشي، عندما نفكّر بسلوكه، بأنه قد شكّل حالة فريدة من نوعها لرجل غريب جداً، حيث أنه تمكّن من أن يجمع في شخصيته ليس مواصفات رجل الفعل، وإنما كذلك رجل الفكر، رجل الفضائل الثورية النقيّة والإحساس الإنساني ما فوق العادي، إلى جانب طَبعٍ جديدي وإرادة فولاذية وصرامة جَموحة.
ولهذا فقد ورّث لأجيال المستقبل ليس فقط تجربته ومعارفه كجندي بارز، وإنما في الوقت نفسه ما حققه بذكائه من إنجازات. كان يكتب ببراعة كلاسيكيّ باللغة. قصصه عن الحرب لا يُعلى عليها. عُمق فكره مُدهش. لم يكتب على الإطلاق عن شيء لم يقم به بجديّة استثنائية، بعمق ما فوق العادي؛ ولا يراودنا الشك بأن بعضاً من كتاباته ستتحول لاحقاً إلى وثائق كلاسيكية للفكر الثوري.
وهكذا، كثمرة لهذا الذكاء المتّقد والعميق، ترك لنا من الذكريات ما لا يعد ولا يُحصى، ومن القصص ما لا يعد ولا يُحصى، والتي، لولا عمله، لولا جهده، ربما كان لها أن تندخل عالم النسيان إلى الأبد.
عامل لا يكلّ، خلال السنوات التي كان فيها بخدمة وطننا لم يعرف يوم راحة واحد. كثيرة هي المسؤوليات التي تم توكيله بها: كرئيس للبنك الوطني، كمدير لمجلس إدارة التخطيط، كوزير للصناعة، ككومندان في القطاعات العسكرية، كرئيس لوفود ذات طابع سياسي، أو طابع اقتصادي، أو طابع وديّ.
بذكائه متعدد الجوانب كان قادراً على الولوج بأقصى درجة من الطمأنينة في أي مهمة على أي صعيد ومن أي نوع كان. وهكذا، مثّل بشكل بارز وطننا في العديد من المؤتمرات الدولية، بذات الطريقة التي قاد بها بشكل بارز الجنود في المعركة، وبنفس الطريقة التي كان فيها عاملاً مثالياً على رأس أي من المؤسسات التي أوكلت إليه. ولم يعرف هو أيام راحة، كما لم يعرف ساعات راحة! وعندما كنا ننظر إلى نوافذ مكاتبه، نراها دائماً مضاءة حتى ساعات متأخرة من الليل، يدرس، أو على الأصح، يعمل أو يدرس. لأنه كان شغفاً بدراسة كل المسائل، وكان قارئاً لا يكلّ. تعطّشه للإحاطة بالمعارف الإنسانية لم يكن يرتوي عملياً، والساعات التي كان يسرقها من النوم كان يخصصها للدراسة؛ والأيام التي كانت مخصصة نظامياً للراحة، كان يخصصها للقيام بالعمل التطوعي.
هو كان المُلهم والمحفِّز الأكبر لهذا النوع من العمل الذي أصبح اليوم نشاطاً يمارسه مئات الآلاف من الأشخاص في كل أنحاء البلاد؛ المحفز لهذا النشاط الذي يكتسب قوة أكبر بين جماهير شعبنا.
وكثائر، كثائر شيوعي، شيوعي حقيقي، كان لديه إيماناً لا حدود له بالقيم الأخلاقية، كان لديه إيماناً لا حدود له بوعي الإنسان. ومن واجبنا أن نقول أنه بمفهومه قد رأى بوضوح مطلق أن المكونات الأخلاقية تشكل الرافعة الأساسية لبناء الشيوعية في المجتمع الإنساني.
لقد أمعن التفكير بأشياء كثير وطوّرها وكتبها. وهناك أمر يجب قوله في يوم كهذا، وهو أن كتابات تشي، وفكره السياسي والثوري سيكون لها قيمة دائمة في العملية الثورية الكوبية وفي العملية الثورية بأمريكا اللاتينية. ولا يراودنا شك بأن قيمة أفكاره، أفكاره كرجل فعل وكرجل فكر وكرجل صاحب مزايا أخلاقية رفيعة، وكرجل ذي إحساس إنساني لا يُعلى عليه، وكرجل ذي سلوك لا شائبة فيه على حدّ سواء، لها وسيكون لها دائماً قيمة كونيّة.
الإمبرياليون يهلّلون نصراً لمصرع المحارب في المعركة؛ الإمبرياليون يهلّلون نصراً لضربة الحظ التي مكّنتهم من تصفية رجل فعل بكل هذا الكمال. ولكن الإمبرياليين ربما يجهلون أو يحاولون أن يتجاهلوا بأن صفة رجل الفعل هي واحدة من الجوانب الكثيرة في شخصية هذا المناضل. وإذا كانت المسألة مسألة ألم، فإن ما يؤلمنا ليس فقط خسارتنا لرجل فعل، يؤلمنا ما خسرناه كرجل فاضل، يؤلمنا ما خسرناه كرجل ذي حساسية إنسانية رقيقة، ونتألم لخسارة الذكاء الذي خسرناه. يؤلمنا أن نفكر أنه كان في التاسعة والثلاثين فقط من العمر عند مصرعه، يؤلمنا أن نفكر كم من ثمرات هذا الذكاء وهذه الخبرة التي كانت تتطور يوماً بعد يوماً أضعنا فرصة استشرافها.
نحن لدينا فكرة عن حجم الخسارة بالنسبة للحركة الثورية. ولكن، مع ذلك، هنا يكمن الجانب الضعيف عند العدو الإمبريالي: اعتقاده أنه بقضائه على الإنسان الجسد قد قضى على فكره؛ اعتقاده أنه بقضائه على الإنسان الجسد قد قضى على أفكاره؛ اعتقاده أنه بقضائه على الإنسان الجسد قد قضى على مثال. ويظنون ذلك بمبلغ من الوقاحة لدرجة انهم لا يترددون في نشر ظروف تصفيته بعد إصابته بجروح، كأمر طبيعي جداً، ما يجعلها شبه مقبولة عالمياً. لم يتمعّنوا حتى بالاشمئزاز الذي يبعثه هذا السلوك، لم يتمعّنوا حتى بحقارة الاعتراف به. وروّجوا لإطلاق النار على مناضل ثوري مصاب بجروح خطيره وكأنه حق من حقوق الزبانية، روّجوا له كحق من حقوق الأوليغارشيين والمرتزقة.
والأسوأ هو أنهم يشرحون سبب فعلهم لذلك، بادعائهم بأنها كانت ستكون كبيرة المحاكمة التي سيخضع لها تشي، بادعائهم أنه كان سيكون مستحيلاً إدخال مقاتل ثوري كهذا في قفص الاتهام.
وليس هذا فقط، وإنما لم يترددوا في إخفاء رفاته. أصحّ أم كذب ما جاء في الإعلان عن أنه قد تم حرق جثته، إنما يبدأون بذلك إثبات خوفهم، يبدأون بذلك الاثبات بأنهم ليسوا على قناعة بالغة بأنه مع القضاء على جسد المناضل يقضون على أفكاره ويقضون على مثاله.
لم يسقط تشي مدافعاً عن مصلحة أخرى، قضية أخرى، غير قضية المستغَلّين والمضطهَدين في هذه القارة؛ تشي لم يسقط مدافعاً عن قضية أخرى غير قضية فقراء وضعفاء كوكب الأرض. الطريقة النموذجية والنزاهة اللتان دافع بهما عن هذه القضية لا يجرؤ ألدّ أعدائه حتى على طرحهما للبحث.
أمام التاريخ، يشمخ يوماً بعد الناس الذين يتصرّفون مثله، الناس الذين يفعلون كل شيء ويقدّمون كل ما لديهم من أجل قضية الضعفاء، وفي كل يوم يمرّ يدخلون أكثر عمقاً إلى قلوب الشعوب.
وها قد بدأ الأعداء الإمبرياليون يفهمون ذلك، ولن يتأخرون في التحقق من أن مصرعه سيكون على المدى الطويل بذرة ستُنبِت كثيرين من الرجال المستعدّين لمنافسته، كثيرين من الرجال المستعدّين لاتّباع خطاه.
ونحن على قناعة مطلقة بأن القضية الثورية في هذه القارة ستخرج من هذه الضربة، أن القضية الثورية في هذه القارة لن تهزمها هذه الضربة.
من وُجهة النظر الثورية، من وجهة نظر شعبنا، كيف من واجبنا أن ننظر إلى تشي كمثال؟ هل نعتقد يا ترى بأننا فقدناه؟ صحيح أننا لن نرى بعد اليوم كتابات جديدة له، وصحيح أننا لن نسمع صوته من جديد بعد اليوم. لكن تشي ترك للعالم إرثاً، إرثاً عظيماً، ومن هذا الإرث نستطيع نحن –الذي عرفناه عن قرب- أن نكون بدرجة كبيرة ورثة له.
ترك لنا فكره الثوري، ترك لنا مزاياه الثورية، ترك لنا طبعه، إرادته، صلابته، روح عمله. بكلمة واحدة، ترك لنا مثاله! ومثال تشي يجب أن يكون نموذجاً لشعبنا، مثال تشي يجب أن يكون النموذج الأمثل لشعبنا!
إذا أردنا أن نعبّر عن الماهيّة التي نتمنّى أن يكون عليها مناضلونا الثوار، أعضاؤنا الحزبيون، رجالنا، من واجبنا أن نقول بدون تردد من أي نوع كان: أن يكونوا كما تشي! إذا أردنا أن نعبّر عن الماهية التي نرغب بأن يكون عليها رجال الأجيال المقبلة، من واجبنا أن نقول: أن يكونوا كما تشي! إذا أردنا أن نعبّر عن الماهية التي نرغب بأن يتربّى عليها أطفالنا، من واجبنا أن نقول بدون تردد: نريدهم أن يتربوا على روح تشي! إذا أردنا نموذجاً للإنسان، نموذجاً لإنسان لا ينتمي إلى هذا الزمن، نموذجاً لإنسان ينتمي للمستقبل، أقول من أعماق القلب أن هذا النموذج بدون شائبة واحدة في سلوكه، بدون شائبة في تعامله، بدون شائبة في تصرفه، فإن هذا النموذج هو نموذج تشي! إذا أردنا أن نعبّر عمّا نريد أن يكون عليها أبناؤنا، من واجبنا أن نقول من أعماق القلب الثوري الخالص، نريدهم أن يكونوا كما تشي!
لقد تحوّل تشي إلى نموذج الإنسان، ليس فقط بالنسبة لشعبنا، وإنما بالنسبة لأي من شعوب أمريكا اللاتينية. لقد ارتقى تشي بالصلابة الثورية وروح التضحية الثورية والروح النضالية عند الثائر وروح العمل عند الثائر إلى أسمى صورها، ورفع تشي أفكار الماركسية-اللينينية إلى صورتها الأكثر نضارة ونقاء وثوريّة.
لم يرفع أي إنسان في هذا العصر الروح الأممية البروليتارية إلى أسمى مستوى لها كما رفعها هو!
عندما يتم الحديث عن أممي بروليتاري، أو البحث عن نموذج للأممي البروليتاري، فإن هذا المثال، الذي يتفوق على أي مثال آخر، هو مثال تشي! كانت قد اندثرت في عقله وفي قلبه الرايات والأحكام المسبقة والشوفينية بأنواعها والأنانيّة بأنواعها! ودمه الزكي كان هو جاهزاً لتقديمه فداء لأي شعب، فداء لقضية أي شعب، وكان جاهزاً لتقديمه تلقائياً ومستعداً لتقديمه تلقائياً!
وهكذا، فإن دمه قد روى هذه الأرض عندما جُرح في معارك مختلفة، دمه من أجل خلاص المُستغَلّين والمُضطَهَدين، والضعفاء والفقراء، نزف في بوليفيا. هذه الدماء نزفت من أجل كل المستغَلّين، من أجل كل المضطَهَدين، وهذه الدماء نزفت من أجل كل شعوب القارة الأمريكية ونزفت من أجل فيتنام، لأنه هناك، وفي قتاله بوجه الأوليغارشيات، إنما كان يحارب الإمبريالية، كان يدرك أنه يقدّم بذلك لفيتنام أسمى تعبير عن تضامنه!
ولهذا، أيها الرفاق والرفيقات بالثورة، من واجبنا أن ننظر إلى المستقبل بثبات وعزم؛ لهذا من واجبنا أن ننظر إلى المستقبل بتفاؤل. وسنجد في مثال تشي دائماً الإلهام، الإلهام للنضال، الإلهام بالصلابة، الإلهام بالعناد في وجه العدو، والإلهام بالشعور الأممي!
ولهذا فإننا، في هذه الليلة، وبعد هذا الاحتفال المؤثر، وبعد هذا التعبير الحاشد الذي لا يصدّق – من حيث حجمه وما شابه من انضباط وتفاني- عن التقدير، الذي يثبت مدى حساسية هذا الشعب، ويثبت مدى امتنان هذا الشعب، ويثبت مهارة هذا الشعب في تكريم ذكرى الشجعان الذين يسقطون في ساحة المعركة، ويثبت اتقان هذا الشعب لتقدير من يخدمونه، ويثبت تضامن هذا الشعب مع الكفاح الثوري، ورفع هذا الشعب للرايات الثورية والمبادئ الثورية وإبقائه عليها مرفوعة وأكثر سمواً يوماً بعد يوم؛ نرفع في هذا اليوم، وفي هذه اللحظات من الذكرى، صوتنا لنقول، بتفاؤل بالمستقبل، بتفاؤل مطلق بالنصر النهائي للشعوب، لتشي ومعه الأبطال الذين قاتلوا وسقطوا إلى جانبه: حتى النصر دائماً!
الوطن أو الموت!
سننتصر!
(تصفيق حاد)
الطبعات الاختزالية