الثوار العظام
أقرأ بعناية وانتباه في كل يوم الآراء التي ترد عبر وكالات الأنباء التقليدية عن كوبا، بما فيها وكالات الشعوب التي شكلت جزءاً من الاتحاد السوفييتي ووكالات جمهورية الصين الشعبية وغيرها. وتصلني أنباء من وسائل صحفية مكتوبة تصدر في أمريكا اللاتينية وإسبانيا وبقية أوروبا.
يبدو الوضع أكثر غموضاً يوماً بعد يوم أمام الخوف من حالة ركود طويلة المدة، كتلك التي وقعت في الأعوام التالية لعام 1930. في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 1944 تلقت حكومة الولايات المتحدة الامتيازات التي مُنحت في بريتون وودز لأعتى قوة عسكرية: إصدار الدولار كعملة صرف عالمية. كان اقتصاد ذلك البلد قد خرج على حاله سليماً بعد الحرب، عام 1945، ويتمتع بسبعين بالمائة تقريباً من احتياطي العالم من الذهب. قرر نيكسون من جانب واحد، في الخامس من آب/أغسطس 1971، إلغاء الرصيد-الكفالة من الذهب مقابل كل دولار يتم إصداره. وبهذا موّل مجزرة فيتنام في حرب كلّفت أكثر من عشرين ضعف القيمة الفعلية للاحتياط من الذهب المتبقي لديها. ومنذ ذاك والاقتصاد الأمريكي يحافظ على بقائه على حساب الموارد الطبيعية ومدخرات بقية العالم.
نظرية النمو المتواصل للاستثمار والاستهلاك التي طبقتها البلدان الأكثر تقدماً على البلدان التي تعيش فيها أغلبية ساحقة من الفقراء، محاطة بمظاهر ترف وإسراف قلة قليلة من الأثرياء، ليست بنظرية مذلّة فحسب، بل أنها مدمِّرة أيضاً. فعملية النهب هذه ونتائجها الكارثية هي سبب التمرد المتنامي للشعوب، مع أنهم قليلين جداً الذين يعرفون تاريخ الأحداث.
وأفضل ملكات الذكاء وأكثرها تهذيباً تندرج ضمن قائمة الموارد الطبيعية ولها سعرها في السوق العالمي للسلع والخدمات.
ماذا يحدث للثوار العظام مما يسمى اليسار المتطرف؟ بعضهم هو كذلك بسبب الافتقاد للواقعية إلى جانب لذة الحلم بأمور عذبة. بعض آخر منهم ليسوا أبداً بحالمين، إنما هم خبراء في هذا المجال، ويعرفون ماذا يقولون ولماذا يقولونه. إنها مكيدة جرى إعدادها بمهارة ولا ينبغي الوقوع فيها. يعترفون بقفزاتنا، على غرار أولئك الذين يمنحون الصدقات. هل أنهم يفتقدون للمعلومات فعلاً؟ ليس الحال كذلك. أستطيع أن أؤكد لكم بأنهم على إطلاع كامل ومطلق. في حالات معينة تسمح لهم الصداقة المزعومة مع كوبا بالتواجد في العديد من الاجتماعات الدولية وبالتحدث مع من يشاؤون من الأشخاص القادمين من الخارج أو من البلاد، بدون أي عثرات تضعها جارتنا الإمبراطورية على مسافة تسعين ميلاً فقط من السواحل الكوبية.
بماذا ينصحون الثورة؟ سمٌّ صرف. الصيغ الأكثر تقليدية من صيغ النيوليبرالية.
لا وجود للحصار، يبدو بأنه اختراع كوبي.
إنهم يقللون من شأن أعظم مهمة حققتها ثورتنا، إنجازها التعليمي، رعايتها الواسعة للملكات الذكية. يؤكدون على الحاجة لوجود أشخاص قادرين على البقاء عبر قيامهم بأعمال بسيطة وشاقة. إنهم يقللون من شأن النتائج ويبالغون في النفقات على الاستثمارات العلمية. أو ما هو أسوأ من ذلك: يتم تجاهل قيمة الخدمات الصحية التي تقدمها كوبا للعالم، حيث، وبموارد متواضعة، تقوم الثورة في الواقع بتعرية النظام المفروض من قبل الإمبريالية، الذي يفتقد لطاقم إنساني ينفّذ هذه المهمة. يتم إسداء النصح باستثمارات هي مدمّرة في الواقع، والخدمات التي تقدمها، كالإيجار، هي خدمات مجانية عملياً. لو لم يتم في الوقت المناسب وقف الاستثمارات الأجنبية في مجال المساكن، لكان قد تم بناء عشرات الآلاف منها، من دون موارد أخرى غير القادمة من بيعها مسبقاً لأجانب مقيمين في كوبا أو في الخارج. بالإضافة لذلك، إنما هي شركات كانت تحتكم لقانون آخر سنّته شركات إنتاجية. لم تكن هناك حدود لصلاحيات المشترين بصفتهم مالكين. تقوم البلاد في هذه الحالة بتزويد الخدمات لهؤلاء المقيمين أو المستخدِمين، وللقيام بذلك لا يحتاج الأمر لمعارف عالم أو أخصائي في المعلوماتية. وكثيراً من أماكن الإقامة هذه كان بالوسع اقتناؤها من قبل هيئات تجسسية معادية أو حليفة لها.
لا يمكن الاستغناء عن بعض الشركات المختلطة لأنها تسيطر على أسواق لا غنى عنها. ولكن لا يمكن أيضاً إغراق البلاد بالأموال من دون بيع السيادة.
الثوار العظام الذين ينصحون بهذه الوصفات يتجاهلون عن قصد موارد أخرى هي حاسمة حقاً بالنسبة للاقتصاد، كما هو حال الإنتاج المتنامي للغاز، والذي يتحول بعد تنقيته إلى مصدر لا يستهان به للكهرباء من دون أن يلحق الأذى بالبيئة ويعود بمردود يبلغ مئات الملايين من الدولارات سنوياً. عن الثورة الطاقية التي تروّج لها كوبا، وهي حيوية وذات أهمية حاسمة بالنسبة للعالم، لا تقال كلمة واحدة. بل وأنهم يصلون إلى ما هو أبعد من ذلك: يرون في إنتاج قصب السكر، وهو محصول حافظ على بقائه في كوبا عبر يد عاملة شبه مستعبدة، فائدة لمصلحة البلاد، قادرة على مواجهة أسعار الديزل المرتفعة التي تبذرها سيارات الولايات المتحدة وأوروبا الغربية وغيرها من البلدان المتقدمة بلا رادع. يتم حفز الغريزة الأنانية عند أبناء البشر، بينما تتضاعف أسعار المواد الغذائية مرتين وثلاث.
لم يكن هناك أحد أكثر مني انتقاداً لانجازنا الثوري نفسه، ولكن لن يجدني أحد أيضاً بانتظار فضلاً أو عفواً من الإمبراطوريات.
فيدل كاسترو روز
3 أيلول/سبتمبر 2007
الساعة 8:36 مساءً